
عبدالهادى الحاج
في الخامسة والنصف مساءً كانت العَربة قد وصلت محطتها الأخيرة..
درجة الحَرارة في المدينة تتجاوزُ الصفر ببضعة درجات.. الأعيُن المُبعثرة في المكان جَميعُها تَبحثُ عن قادم طال إنتظاره.. لم يَبذلُ (ماي) جهداً كبيراً ليَقتنصُنيي من بين مئات البشر الذين ضٌاق بهم المكان.
الدماء تتجمدُ في العروق من شدّة البرد، ودفء حُضور ماي يفتحُ لها الف شريانً لتَنَسابُ شوقاً وتحناناً.
كان كل شئ في المدينة يبدو جديداً في أول عهدي بها.. شوارعها .. بناياتها .. أرصفتها .. حاناتها .. إلا وجهُ ماي .. فقد كان هو الشئ الوحيد المألوف.
ماي اُسطورةً تربّعت على الوجدَان.. ونهراً يرفدنا بالرغبة في الحياة.. ماي قصةُ وطنٌ أصابته (عينُ الحَسَد).. لم ألتقيه من قبلٌ لكنني أعرفه جيداً.. أعرفه حينما حاربنا المُستعمر معاً في أرض النوير وغابات شيكان وسهول التيب وتاماي.. وأنقطعَتَ سيرتُه عندما ترك قريته الصغيرة هرباً من الحرائق والقتل وأصواتُ المدافع وأزيز طائراتُ الموت.. هرَبَ بعيداً عن رائحة الحرب وصَنَع رُكناً قصياً في فؤاده أسماه (الوطنٌ).. خَبأ فيه كل ماهو جميلُ عن أرض الأجداد.. فكان ذلك الرُكن بمساحة مليون ميل مُربع.. تعانقنا كأننا لم نتذوق طعمُ العناق من قبل.. سرنا فى أرصفة المدينة سوياً نقتسمُ روعة الحضور الذي لَم تُفسده سوى لغةُ المُستعمر.. فقد عَلَت أصواتُ الرصٌاص قبل أن تَهبَط رايةُ المُستعمر الذى خَرَج وترك لغته غريبةُ على الألسُن.. ماي يُعلمني كلّ صَباح كيف أعشق تفاصيل المديٌنة.. وكيف أردد أنشودّة طالما توارَتَ في القلوب خوفاً من طائرات الموت.. (أنت سوداني وسوداني أنا.. ضَمّنا الوادي فمن يُفصلُنا).. ففي تلك المديٌنة البعيدة عن قرية ماي خَرجت الأنشودة من مخبئها.. ورقصت سُكرى على سمفونية الوطن اللأمُتناهي.. ماي كان يسألني عن عزّة وعن الخَليل وعن دقنة وعلي دينٌار والسُلطان يامبيو وعن ترهاقا وبادي أبو شلوخ والماظ وعلي عبداللطيف.
ماي صار تحَية الصَباح ووداع آخر الليل وزَخَات المَطر عند منتصٌف النهار .. ماي صار رحيقُ الأمكنة ودفء الأزمنة .. المدينة صارت عندي كلها ماي.. فكان عصيّاً علي أن أمنحُها تحيةُ الوداع.. عصيّاً علي أن أجمع شتات الدّمع الذي تبعثَر في الطُرقات.. عصيّاً علي أن أفارق ماي.
همستُ في أذنه (أخشى أن أعود ولا أراك هنا مرة أخرى).. صمت طويلاً ولم يرَد.. عيناه أكملتا ملامح تلك اللوحة التراجيدية.. رحلتُ بعيداً عن ماي .. رحلتُ إلى (الوطن المجازى).. ذهبتُ أبحث عن قرية ماي لأخبرها عنه وعن وطن آخر شيدناه سوياً فلم أجَد القرية ولم أجد طائرات الموٌت.. ولم أجد سوى (ثوراً أسود) مذبوحاً على قارعة الطرٌيق.. يا إلهي ما الذي حدث؟؟ من الذى سَرَق القرية؟؟.. ياله من وطن (منحُوس).. وطن سرق أرضه اللصوص وقايضوه بثور أسود.
هرولتُ مُسرعاً نحو المدينة البَعيدة أبحثُ عن ماي.. أبحثُ عن حُلم تسرّب كما الماء بين تَشَقُقات الأرض.. أين أنت يا ماي.. يا للأسف ليس هناك من مُجيب.. كُل شئ في المدينة كما هو إلا وجه ماي.. بربك قل لي أين تختبئ ؟؟ أخرج لنعيد القرية المسٌروقة !! .. لم أترك شارعاً إلا وبحثتُ فيه عن ماي.. لم أترك حَجَراً إلا وسألتُه عن ماي.. في ذلك المقعد كان يجلسُ ماي.. من ذلك الدرب كان يأتي ماي.. من تلك النافذة كان يُناديني ماي.. بالله عليك أرحميني أيتها المدينة.. خبريني أين مكان ماي.. تركتُ المدينة وعُدت إليها ثم تركتُها مرّة أخرى وعدتُ وماي لم يعُد بعد.
ماي صار تحَية الصَباح ووداع آخر الليل وزَخَات المَطر عند منتصٌف النهار .. ماي صار رحيقُ الأمكنة ودفء الأزمنة .. المدينة صارت عندي كلها ماي.. فكان عصيّاً علي أن أمنحُها تحيةُ الوداع.. عصيّاً علي أن أجمع شتات الدّمع الذي تبعثَر في الطُرقات.. عصيّاً علي أن أفارق ماي.
همستُ في أذنه (أخشى أن أعود ولا أراك هنا مرة أخرى).. صمت طويلاً ولم يرَد.. عيناه أكملتا ملامح تلك اللوحة التراجيدية.. رحلتُ بعيداً عن ماي .. رحلتُ إلى (الوطن المجازى).. ذهبتُ أبحث عن قرية ماي لأخبرها عنه وعن وطن آخر شيدناه سوياً فلم أجَد القرية ولم أجد طائرات الموٌت.. ولم أجد سوى (ثوراً أسود) مذبوحاً على قارعة الطرٌيق.. يا إلهي ما الذي حدث؟؟ من الذى سَرَق القرية؟؟.. ياله من وطن (منحُوس).. وطن سرق أرضه اللصوص وقايضوه بثور أسود.
هرولتُ مُسرعاً نحو المدينة البَعيدة أبحثُ عن ماي.. أبحثُ عن حُلم تسرّب كما الماء بين تَشَقُقات الأرض.. أين أنت يا ماي.. يا للأسف ليس هناك من مُجيب.. كُل شئ في المدينة كما هو إلا وجه ماي.. بربك قل لي أين تختبئ ؟؟ أخرج لنعيد القرية المسٌروقة !! .. لم أترك شارعاً إلا وبحثتُ فيه عن ماي.. لم أترك حَجَراً إلا وسألتُه عن ماي.. في ذلك المقعد كان يجلسُ ماي.. من ذلك الدرب كان يأتي ماي.. من تلك النافذة كان يُناديني ماي.. بالله عليك أرحميني أيتها المدينة.. خبريني أين مكان ماي.. تركتُ المدينة وعُدت إليها ثم تركتُها مرّة أخرى وعدتُ وماي لم يعُد بعد.
***************
عامان منذُ أن ترك ماي المدٌينة .. عامان وأنا أبحثُ عنه بلاجدوى !!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق