لقد أرادت العقلية الشرقية أن تنقل مركزية العالم مرة أخرى إلى الشرق وفشلت وانهزمت أمام العقلية الغربية. ما وراء ذلك؟
وجواب طريق الحقيقة على هذا السؤال:
1- إن العقلية الشرقية لم تستطع أن تتخلى عن السلاح الأيديولوجي.
2- إن العقلية الغربية تمسكت بالعقلية العلمية وطوروها إلى أبعد الحدود.
3- إن قراءة العقلية الشرقية للتاريخ كانت خاطئة وقراءة العقلية الغربية كانت صائبة.
4- إن العالم الحديث الذي بدأ هو تاريخ العلم، وإن من أخطر ما أنتجه العلم (( الآلة )).
إن الآلة في التاريخ الحديث تحكم العالم وتحكمنا في الشرق الأوسط. إن من يملك الآلة يحكم العالم.. وإن ما نقصده بملكية الآلة هو من يصنعها. وتبعاً لهذا المقياس الجديد الذي أوجده العلم قسمت البشرية على وجه الأرض إلى فئتين:
1- الفئة الأولى التي تصنع الآلة وهي فئة الأسياد.
2- والفئة الثانية والتي لا تصنع الآلة وهي فئة العبيد.
فإذا أراد شعباً ما أن يتخلص من عبوديته وينتقل إلى صف فئة السادة عليه أن يصنع الآلة ويملكها. وبدون ذلك سيبقى عبداً مهما ادعى وتغنى بماضي آباءه وأجداده. إن التغني بماضي الأجداد وبحسبهم ونسبهم لا ينفع شيئاًَ على الإطلاق ولا يقدم حلاً للخلاص من العبودية. إن معرفة العلم المادي، يعني معرفة أسرار المادة، ومعرفة أسرار المادة يعني صنع الآلة وامتلاكها..
ومع حلول التاريخ الحديث وانتصاره على القديم اختلفت الموازين والمقاييس التي تقاس بها قوة الأمم والشعوب.
أ- مقاييس القوة للتاريخ القديم:
1- كانت تقاس قوة الشعوب والأمم بعدد سكانها واتساع مساحتها الجغرافية.
2- بقوة إيمانها الأيديولوجي والعقائدي.
3- بصلابة نظامها السياسي ومركزيتها المشددة.
4- وكان النظام الحقوقي لحق المواطنة قائماً إما على القومية أو الطائفية أو المذهب أو الحزبية أو الطبقة.
ب- مقاييس القوة للتاريخ الحديث:
1- لم يعد لعدد السكان ولا مساحة الجغرافية أية قيمة.
2- لقد حل العلم المادي مكان الإيمان الروحي والأيديولوجي والعقائدي.
3- لقد حل اللامركزية محل المركزية. وحلت محلها الكونفدرالية أو الفيدرالية أو الحكم الذاتي.
4- وحل النظام الحقوقي لحق المواطنة الحق الإنساني، بدلاً من الحق القومي أو الطائفي أو المذهبي أو الحزبي أو الطبقة.
لقد قلبت مقاييس القوة للتاريخ الحديث تاريخ العلم، الحياة البشرية رأساً على عقب. وتغيرت المفاهيم السياسية والاجتماعية والثقافية والتكنيكية.
تغير المفاهيم في التاريخ الحديث:
1- من الناحية السياسية: لقد ألغت مقاييس القوة للتاريخ الحديث تاريخ العلم المفاهيم السياسية القديمة ولم يعد لتلك المفاهيم السياسية أية قيمة وإن من يتمسك بها يعني مزيداً من الأزمات والخراب والفقر والتخلف.
إن مفهوم مركزية الدولة كان لها سحرها في التاريخ القديم وكانت كل الشعوب تعشقها. ولهذا نرى أن التاريخ القديم قد أنشأ مدن كبيرة ثم تجمعت فيها الملايين من سكان الأقاليم. وذلك كونها كانت المركز السياسي والإداري لكل الأقاليم. وكل المال للأقاليم كانت تجمع فيها. وتقام فيها كل المنشآت الحرفية والصناعية والأغذية. لقد كانت تكبر باستمرار على حساب مدن الأقاليم ولا عجب أن نرى اليوم مدن كبيرة يبلغ عدد سكانها عشرات الملايين كطهران واستانبول والقاهرة. بينما مدن الأقاليم لتلك العواصم المركزية لا يبلغ تعداد سكانها سوى عشر سكان المركز. وهي في انتقاص دائم. إن جميع الرأسمال الوطني ينتقل إلى المركز وتعيش مدن الأقاليم على الفتات.
إن جمع مال الأقاليم كله ووضعه في خزينة واحدة في المركز وتجميع الرأسمال الخاص في مدينة المركز يعني هذا هدفاً مغرياً لرجال السياسة. ولهذا نرى أنه كان صراعاً شديداً في الدول القسرية التي أنشأت في الشرق الأوسط والتي سنأتي إليها فيما بعد على السلطة. تارة باسم توحيد الأمة وتارة باسم الدين وأحياناً باسم الوطنية. والهدف الحقيقي كان وراء هذه الشعارات هو الاستيلاء على المركز ليكون المال العام والخاص تحت تصرفها. لقد أطلقوا على أنفسهم أسماء براقة وأصلوا بنسبهم إلى الأنبياء. لقد ظهرت أسماء عديدة... القائد.. والملهم.. وقائد الضرورة.. والملك.. والأمير.. والأب.. والسلطان.. والرئيس المؤمن..! الخ... الخ.. الخ...!
أما في التاريخ الحديث تاريخ العلم فقد انقلب مفهوم المركزية والمركز السياسي إلى كارثة. إلى مفهوم مفزع، لأن مفهوم المركزية والمركز السياسي يعني الآن: النهب، والسلب، والسرقة للمال العام.. وإن شعباً ينهب ويسلب ويسرق لا يمكن أن تكون هناك برامج واستراتيجيات تخطط وتنفذ بدون المال. وهذا يعني أن الشعب الذي يُحكم من قبل المركزية المشددة سيظل عائشاً وفق مقاييس التاريخ القديم وهذا يعني الموت البطيء.
لقد استبدل التاريخ الحديث الأسماء السياسية المذكورة بالفيزيائي والكيميائي والهندسي والطبي والإلكتروني والجيولوجي...الخ
فأي شعب لم يستبدل أسماءه القديمة بالجديدة لا مكان له في التاريخ الحديث اليوم ولا يقبله التاريخ.
لقد استبدل التاريخ الحديث المركزية السياسية باللامركزية. واللامركزية لها أسماؤها السياسية. قد تكون كونفدرالية أو فدرالية أو حكم ذاتي وأن توزيع السلطة السياسية للأقاليم يتطلبها التاريخ الحديث ولا مفر منه إن لم يكن اليوم فسيكون غداً. فالشعب الحي والذي يملك ديناميكية التطور يحول حياته السياسية من المركزية إلى اللامركزية كي يستطيع أن يسير مع التاريخ العالمي الحديث. ويحتل مكانه بين الأسياد.
أما الشعب الذي يبقى أسير المفاهيم السياسية القديمة فستكون حياته كلها أزمات ويكون مكانه إلى جانب العبيد.
إن وظيفة المركز تحول في التاريخ الحديث إلى حلقة اتصال بين الأقاليم ووضع الميزانية وتوزيع مال الثروة الوطنية على الأقاليم وفق متطلبات كل إقليم. إن وظيفة المركز المالي هو جباية الأموال من الأقاليم ومن ثم توزيعها ثانية على الأقاليم. أما وظيفتها الإدارية والدبلوماسية هو السياسة الخارجية. أما كيف يكون الجهاز السياسي والإداري في المركز فيكون تكوينه من جميع الأقاليم.
إن الذي يربط الأقاليم بعضها ببعض هو العلم الواحد والجيش الاتحادي المؤلف من جميع أبناء الأقاليم والعملة الواحدة. ليس هناك أي حاجز بين الأقاليم ويحق لكل مواطن من أي إقليم أن يتنقل إلى أي إقليم آخر ضمن النظام الاتحادي كما يحق للرأسمال أن يتنقل ( يبيع ويشتري ) ويقيم منشآته التجارية والصناعية.
إن كل إقليم يحكم نفسه بنفسه وبواسطة أبنائه وله ميزانية خاصة يحددها له المركز. إن أبناء الإقليم مسؤولين عن التطور والبناء والتعليم والأمن والخدمات والمواصلات. ومختصراً يحدد القانون وظيفة المركز ومهمة الإقليم ثم يسجل في مواد دستور دائم يأخذ موافقة جميع سكان الاتحاد الطوعي. وبعد أن ينال الدستور موافقة سكان الاتحاد الطوعي يصبح نافذ المفعول ويبقى المرجعية الوحيدة لكل سكان الاتحاد وتصدر كل القوانين لاحقاً من هذا الدستور.
2- من الناحية الاجتماعية: يولد الإنسان اجتماعياً، وخارج المجتمع لا يستطيع أن يعيش. إن مفهوم المجتمع مفهوم مرتبط بالتاريخ. ولما كانت حركة التاريخ بجانبيه الروحي والمادي غير ثابت فكل ظاهرة اجتماعية أيضاً تتعرض للتغيير وعدم الثبات. وهكذا فإن مفهوم الاجتماع مر بمراحل تاريخية عديدة. فكان في البداية الأب والزوجة ومن ثم الأولاد حيث شكلوا معاً الأسرة، والأسرة تتغير وتتطور إلى العشيرة والقبيلة والشعب والأمة.
والأمة في طريقها إلى التغيير والتطور.
إن التاريخ الحديث الآن وضع حداً فاصلاً بين مفهوم الأمة الاجتماعي للتاريخ القديم والتاريخ الجديد.
لقد كان مفهوم الأمة في التاريخ القديم مرتبط بالدين، فكان هناك أمة مسيحية وأمة إسلامية وأمة بوذية وأمة يهودية...الخ ثم تحول مفهوم الأمة الاجتماعي المرتبط بالدين إلى مفهوم الأمة المرتبط بالقومية فكان هناك الأمة الإنكليزية والفرنسية والألمانية والإيطالية والعربية والتركية والفارسية والكردية والروسية والهندية ...الخ
لقد كان القرن العشرين بأكمله صراعاً من أجل تكوين هذه الأمة القومية ونتيجة هذا الصراع أدى إلى نشوب حربين عالميتين راح ضحيتها مئات الملايين من البشر. واختتم هذا الصراع بثلاث كوارث زرعت في وجدان البشرية وهي: القنبلة الذرية التي ألقيت على هيروشيما والثانية على ناغازاكي والقنبلة الثالثة كانت كيماوية ألقت على مدينة حلبجة (في كردستان العراق).
إن التاريخ الحديث تاريخ العلم قد ألغت المفاهيم السابقة للأمة تماماً. لقد ألغت مفهوم الأمة الديني والقومي واستبدلته بمفهوم الأمة القاري.
وهكذا ظهر الاتحاد الأوروبي كأول أمة لنداء التاريخ وكانت قارة سباقة لتحقيق الاستحقاق التاريخي. إن أمة أوروبية ظهرت إلى الوجود وأصبح لها علم كرمز لهذه الأمة وعملة واحدة أسموها باليورو وها هي في طريقها إلى الكمال سياسياً واجتماعياً وثقافياً وحقوقياً بالرغم من كل المآسي والآلام والدمار الذي جروها على بعضهم البعض بحربين عالميتين. فها هم يتوجهون نحو تشكيل أمة أوروبية اتحادية. ونحن في طريق الحقيقة لا نملك إلا أن نقدم تهانينا وإعجابنا لكل العقول العاقلة لأبناء شعوب هذه القارة التي أصبحت سباقة في تقديم إبداعاتها الروحية والمادية للبشرية.
أما نحن في الشرق الأوسط فلا يزال 99.99% من عقلائنا ومفكرينا وسياسيينا ومعارضينا يتمسكون بمفهوم الأمة إما القومي وإما الديني.
فالتيار القومي العربي لا زال يتمسك بمفهوم الأمة العربية الواحدة الموحد.
والتيار القومي التركي لا زال يتمسك بمفهوم الأمة التركية الواحدة الموحد.
والتيار القومي الفارسي لا زال يتمسك بمفهوم الأمة الفارسية الواحدة الموحد.
أما التيار الديني فلا زال يتمسك بمفهوم الأمة الإسلامية الواحد الموحد سواء أكان عربياً أو تركياً أو فارسياً.
وهناك انقسام في التيار الديني بين الثلاثة العربي والفارسي والتركي ولا يتنازل الواحد للآخر مطلقاً. فالعربي يناضل في سبيل أمة إسلامية ولكن بشرط أن تكون بزعامة العربي. والتركي يطلب الزعامة لهذه الأمة، والفارسي أيضاً يطلب الزعامة لهذه الأمة.. وهكذا تسير الأمور في الشرق الأوسط وهكذا يريدون العقلاء والمفكرون والسياسيون. ولكن التاريخ الحديث يريدها أمة إقليمية. ذات نظام حقوقي مختلف عن النظام الحقوقي للمواطنة للتاريخ القديم
3- من الناحية الثقافية: إن التاريخ الحديث تاريخ العلم لم يترك من البناء القديم شيئاًَ إلا هدمه. وبظهور مفهوم الأمة الإقليمية والقارية يتطلب من الثقافة أن تتلاءم مع هذا الواقع الجديد. فإذا لم تتغير فإنها ستصبح حجر عثرة في سبيل تقدم الشعوب. إن الوضع الجديد يتطلب أن تتعايش شعوب الشرق الأوسط مع بعضهم البعض وفق نظام حقوقي يعطي لكل إنسان وشعب وقومية حقوق المواطنة على قدم المساواة وبدون هذا النظام الحقوقي لا يمكن أن يكون هناك تعايش، بل التناحر. ولذا فإن الاعتراف بوجود الآخر وكافة حقوقه الإنسانية بات أمراً من التاريخ لا يمكن رفضه... ففي الوقت الذي تخطو شعوب القارة الأوروبية خطوات سريعة نحو تحقيق هذا الاستحقاق التاريخي فنحن في الشرق الأوسط لا زلنا سائرين وراء تحقيق استراتيجيات قديمة ولا زلنا لا نعترف بالآخر ولا بالتعددية. ولا زلنا نعتقد بأن كل واحد منّا في الشرق الأوسط يملك الحقيقة الكاملة. وما على الآخرين إلا أن يقبلوا حقيقتنا.
فالعربي السني لا يعترف بالعربي الشيعي ولا باليزيدي ولا بالقبطي. والعربي الإسلامي الشيعي لا يعترف بالسني العربي. والعربي القومي لا يعترف بالكردي. والعربي الإسلامي الشيعي لا يعترف بالسني العربي.
ولا يتوقف الأمر عند حد عدم الاعتراف بالآخر بل يتعدى الأمر إلى حرمانه من كافة حقوقه الوطنية والإنسانية. فالعربي السني إذا كان بيده السلطة يعتبر كل الآخرين خونة وعملاء وكفار وخارجين عن الجماعة ولا يطيعون أمر الله...الخ ويبدأ مسلسل القتل والتهميش والإبعاد والسجن والتجويع ...الخ إن مثل هذه الثقافة هي السائدة.
إن التاريخ الجديد يرفض هذه الثقافة جملةً وتفصيلاً ولا يمكن أن يقبلنا التاريخ الجديد بهذه الثقافة وإن الاستمرار بهذه الثقافة يعني السير بأقدامنا نحو الكارثة. وهكذا هو حال التركي والفارسي أيضاً.
4- من الناحية التكنيكية: لقد وضع التاريخ الحديث بين أيدينا تكنيكاً جديداً بمفاهيم وأسماء مغايرة للقديم تماماً. لقد حل محل المحراث الخشبي الذي يجره الحيوان الجرار الكهربائي فما علينا إلا أن ننسى المحراث الذي استعمله أجدادنا منذ آلاف السنين. لقد كان البغل والحصان والحمار والجمل وسائل نقل قديمة. لقد وضع التاريخ الجديد وسائل جديدة محل الحيوان فالسيارة والقطار في البر والباخرة في البحر والطائرة في الجو ...الخ إن التاريخ الجديد يجبرنا أن ننسى البغل والحصان والحمار والجمل ونتعلم ونُعلم اسم السيارة والباخرة والطائرة. وهكذا نرى أيها القارئ الكريم أن التاريخ الحديث تاريخ العلم لم يبق من القديم حجرة فوق حجر. ولا خيار أمامنا سوى القبول لحكم التاريخ بأن نغير سياسيتنا ومجتمعنا وثقافتنا وتكنيكنا لكي يقبلنا التاريخ الجديد وإلا فأمامنا التخلف والانحطاط والحروب. فاختر ما يناسبك أخي الكريم في الشرق الأوسط. هذا هو التاريخ العالمي الجديد اليوم. ترى أين مكاننا نحن شعوب الشرق الأوسط في هذا التاريخ.