السبت، 10 ديسمبر 2011

التيار الليبرالى وصناعة مستقبل السودان

عبدالهادى الحاج
(إن المستقبل ينتمي الى هؤلاء الذين يعدّون له اليوم) ..
مالكوم أكس

ثمة سؤال يتبادر لذهن جميع المتابعين للشأن السياسى السودانى .. وهو لماذا ظل الشعب السودانى صامتاً عن الصراخ فى وجه حكومته فى ظل موجة الثورات والإحتجاجات التى تجتاح محيطه الأقليمى على الرغم من الوضعى الإقتصادى والأمنى بالغ السوء الذى تعيشه البلاد؟؟ وتختلف الإجابة على السؤال بحسب المرجعية التى يستند إليها صاحب كل إجابة.. فهنالك من يقول أن الشعب السودانى واعى ولايريد أن يجازف بوحدة البلاد فى ظل الأوضاع المضطربة على هامشه الجغرافى لاسيما مع عدم وجود بديل مقنع للحكم يمكن أن يخلف النظام الحالى ووجهة النظر هذه ترى أن هذا النظام على الرغم من كبواته المتلاحقه إلا أنه يعتبر أفضل السيئين؛ وهى وجهة نظر أقرب للرسمية و يتبناها من يوالون النظام.
وهنالك من أن يرى إن الإطاحة بالنظام الحالى تعنى العودة لمسلسل السيدين الذى أصاب الشعب والدولة السودانية بالملل كما حدث عقب ثورة أكتوبر وإنتفاضة أبريل؛ وهو الأمر الذى يرفضه الشعب السودانى بدرجة لاتقل عن رفضه للنظام الحالى وتبدو رؤيته بضرورة أن تتقدم قوى بديلة المشهد السياسى وتعلن عن رموزها السياسية وأطروحتها التى تلهم الجماهير بالثورة؛ ووجهة النظر هذه تعبر عنها شريحة كبيرة من غير المنظمين سياسياً أو الأشخاص الغير منتمين لأى من الأحزاب السودانية.
كما أن هنالك إجابة أخرى ترى أن عدم تحرك الشارع السودان نحو الثورة يعود إلى أن التغيير القادم فى السودان لن يكون مركزياً كما كان سابقاً وأن قوى الهامش هى التى سوف تصنع التغيير ولاتعقد أملاً فى تحرك النخب السياسية المعارضة بما فيها القوى الحديثة واليسارية لانها حسب وجهة النظر هذه سوف لن تكون إلا قناعاً آخر للنظام الحالى وحلقة أخرى فى مسلسل سيطرة النخب (الشمالونيلية) على مفاصل ماتبقى من السودان، وهذه النخب بصورة أو بأخرى غير متضررة من بقاء النظام لسنوات قادمات على الأقل مع عدم إمتداد الحرب لمناطقها على الرغم من إكتوائها بلهيب الأزمة الإقتصادية، ووجهة النظر هذه يتبناها عدد كبير من أبناء مناطق الهامش السودانى الذين يرون أن الحل لن يكون إلاعبر البندقية.
أيضاً هنالك من أصبح يرى أن مسار أى تحرك نحو ثورة قادمة يجب أن يبدأ مطلبياً أو فئوياً أو حتى قبلياً بسبب ضعف لحُمة البناء الوطنى، وقد ترجم هؤلا ذلك عبر أحداث مياه أمدرمان وأحداث المناصير وأحداث القضارف.
وبالنظر إلى الواقع الذى أفرزته ثورات الشعوب فى محيط السودان الأقليمى، نجد أن بزوغ نجم حركات الإسلام السياسى كان هو الحدث الأبرز الذى سطرته الثورات العربية وبما أن تلك الدول ظلت تسيطر عليها أنظمة إستبداية لادينية فإن النظام السودان يعد على النقيض نظاماً إستبدادياً دينياً الأمر الذى يجعله عبئاً ثقيلاً على الوطن، لذا حينما إنطلقت شرارة الثورة فى تلك البلدان تقدمت القوى الإسلامية الصفوف وطرحت نفسها بديلاً للإنظمة السابقة عبر تبنيها لشعارات براقة عملت على إستغلال العاطفة الدينية لتلك الشعوب، وهنا يبدو تباين الحالة السودانية بالمقارنة مع الحالات الأخرى جلياً، ففى تلك الحالات ينظر لقوى الإسلام السياسى على أنها قوى جديدة تفتح آفاقاً لمستقبل أفضل نحو تداول سلمى للسلطة ولم يسبق لرموزها أن لحقت بهم أى شبهات متعلقة بالفساد أو إنتهاك حقوق الإنسان؛ بل كانو هم الضحية التى عانت من ذلك، فى الوقت الذى نجد فيه أن النظام السودانى والذى يمثل أحد تيارات الإسلام السياسى على الرغم من الإنشقاق الذى أصابه، يعتبر جزء من آلة الفساد والإستبداد فى المحيط الأقليمى وأحد أبرز العقبات التى يجب التخلص منها لبناء السودان الديمقراطى العلمانى وإقرار مبدأ التداول السلمى للحكم، الأمر الذى يبعد إمكانية أو فرضية صعود تيار إسلاموى أو دينى للسلطة؛ لتصبح الساحة السودانية مهيأ إما للقوى التقليدية أو قوى الهامش والحركات المسلحة أو القوى الليبرالية، ليبرز سؤال آخر وهو أى من هذه القوى يمكن أن يكون خياراً للشعب السودانى وبديلاً مناسباً ليطرح رؤيته على الساحة السياسية ؟؟
من واقع الحال يبدو أن رفض القوى التقليدية يعد قاسماً مشتركاً بين كل من يؤمن بضرورة الثورة على النظام الإنقاذى دون تجاهل أن تلك القوى هى الأعلى جماهيرية من بقية القوى الأخرى كما تعد الأكثر فاعلية فى تحريك الشارع السودانى، على خلاف النخب الليبرالية التى يتركز وجودها وسط الشرائح الصفوية فى المجتمع وبدرجة محدودة وسط بعض الراسماليين الوطنيين، أما قوى الهامش السودانى فهى تنحصر فى عدد كبير من الولايات الغربية والجنوبية (الجديدة) وولايات الشرق، وهذه القوى على الرغم من أنها تمثل قوى جماهيرية لايستهان بها فى صناعة أى تحرك إلا أنها تعانى الملاحقات الأمنية المستمرة والمكثفة بحجة موالاة المجموعات المتمردة على الدولة وتلك التى تحمل السلاح، بالإضافة إلى أن النظام نجح فى دق إسفين بينها ومجموعات وسط السودان مستخدماً فى ذلك التناقضات العرقية كفزاعة لتخويف العناصر الوسطية من سيطرة المجموعات غير العربية على مفاصل البلاد، وذلك عبر تسخير آلته الإعلامية الضخمة الأمر الذى جعلها مثار شكوك كثيرة حيال تقدمها أى عملية تغيير قادم.
لكن إذا نظرنا من زاوية أخرى نجد أن جميع القوى الشبابية المنتمية للأحزاب التقليدية تبدو ناقمة على قيادات أحزابها بسبب وضعها على هامش صناعة القرار داخل تلك الأحزاب بالإضافة إلى معاناتها من سيطرة الحرس القديم على مفاصل أحزابها والمغازلات المستمرة بين أولئك القادة ونظام الإنقاذ، متجاهلين فى ذلك التضحيات الجسام التى قدمها أولئك الشباب حينما كان التعذيب والإعتقال والتصفية هو العنوان الوحيد لتعامل النظام مع القوى السياسية الاخرى، بل أن قادتهم على إستعداد للإنخراط فى النظام مقابل بعض المكاسب الشخصية المحدودة، كما هو الحال مع الحزب الإتحادى الديمقراطى فى مشاركته الأخيرة، فى ذات الوقت فإن معظم هؤلا الشباب لم يتركوا أحزابهم وظلوا جزء منها على الرغم من سخطهم المتجدد عليها إلا أنهم لايمانعون فى الإنضمام إلى الأجسام الشبابية الأخرى التى تدعو لإسقاط النظام بالصورة السلمية سواء كان تلك الأجسام التى إستطاعت أن تخرج للعلن وتعلن عن نفسها كمجموعة (قرفنا) وتحمل هذه المجموعات لعبء الملاحقات الأمنية، أو تلك التى ظلت تبث دعواتها عبر الإنترنت، وفى كلا الحالتين فإن ذلك يؤكد إستعداد هؤلا الشباب لترك أحزابهم التقليدية متى ما وجدوا الأجسام التى تجسد طموحاتهم وأحلامهم فى بناء وطن يسع الجميع، كما أن هؤلا الشباب لديهم مواقف واضحة تجاه قضايا التعدد الثقافى والعرقى والدينى فى السودان وقضية فصل الدين عن الدولة، على عكس قادتهم الذين تبدوا مواقفهم حيال هذه القضايا أقرب إلى مواقف التيارت الإسلاموسياسة التى يقف على راسها النظام الإنقاذى.
إن تلك التناقضات تضع شريحة شباب الأحزاب التقليدية فى خانة قريبة جداً من التيار الليبرالى السودانى والذى يمكن أن يستفيد من طاقاتهم الشبابية لدعمه فى المرحلة الثورية والإستفادة من جاهزيتهم التنظيمية ليصبحوا جزءً منه والعمل على إحتوائهم لدعم أطروحته السياسية كبديل مناسب لقيادة البلاد خلفاً للنظام الإنقاذى.
أما التيار الليبرالى السودان على الرغم من محدوية أنصاره إلا أنه يمتلك عدد من النقاط الإيجابية التى لو إستطاع التعامل معها بشكل أمثل سوف تفتح له آفاق القيادة المستقبلية فى السودان، حيث يسيطر المنتمون للتيار اللبيرالى على قيادة جميع منظمات المجتمع المدنى النشطة ومراكز التنوير والحداثة بالإضافة إلى تمدده فى مختلف الأوساط الفنية، كما يعد الأوفر حظاً فى إمكانية الحصول على الدعم الخارجى سواء كان مادياً مباشراً أولوجستياً عبر توفر فرص تدريب الكوادر الليبرالية فى مختلف أوجه العمل السياسى من خلال شبكة علاقات واسعة مع المنظمات اللبيرالية العالمية ومنظمات المجتمع المدنى فى الدول الغربية والأفريقية والعربية.
أيضاً هنالك قوى أخرى فى الساحة السياسية لايمكن الإستهانة بها فى صناعة أى تحرك لتغيير النظام وهى قوى اليسار السودانى أو القوى الإشتراكية والتى يقف على رأسها الحزب الشيوعى السودانى والأحزاب القومية العربية، فهى وإن كانت فى الوقت الحالى تكاد تتطابق مواقفها مع موقف التيار الليبرالى فى إسقاط النظام، إلا أن مرحلة مابعد إسقاط النظام قد تكشف عن بعض التناقضات مع موقف التيار الليبرالى؛ لكن لن يكون تاثيرها كبيراً، ففى الوقت الذى ينظر فيه البعض إلى الحزب الشيوعى السودانى على أنه جزء لايتجزاء من القوى التقليدية، نجد أن حراكاً قوياً يعلن عن وجوده داخل قواعد الحزب التى بدأت تتضجر من سيطرة ديناصورات الحزب على صناعة مواقفه، لكن الضوابط التنظيمية الصارمة التى يطبقها الحزب الشيوعى على عضويته تحد من خروج تلك الأصوات عن دوائر الحزب، أما على مستوى البرنامج السياسي فإن الحزب الشيوعى لم يتبقى له من شيوعيته سوى الإسم بعد أن أصبح عدد من قادته يطلقون تصريحات حول علاقة الدين بالدولة تتناقض بصورة أساسية مع المواقف المعلنة والمعروفة للحزب الشيوعى، ونفى شباب الحزب المستمر لتلك المواقف ومحاولة خلق ضبابية حولها يؤكد رفضهم لها، أيضاً فإن الحزب الشيوعى قد فقد معظم قواعده الجماهيرية جراء التخريب المتعمد من قبل النظام الإنقاذى للقطاع الإنتاجى الحكومى، بالإضافة إلى ذلك فإن مساحة الريبة والتوجس التى إستطاعت أن تخلقها التيارات الإسلاموية بين قطاع واسع من الشعب السودانى وكل ماهو شيوعى تدفع عدد كبير من الشيوعيين لطرح مسألة تغيير إسم الحزب كضرورة يتطلبها واقع العمل وسط الجماهير مستقبلاً الأمر الذى قد يخلق تياراً يبدو قربياً جداً من رؤية التيار الليبرالى، أضف إلى ذلك الخبرات الكبيرة التى يتمتع بها الحزب الشيوعى فى ما يتعلق بالعمل السرى حيث يمكن الإستفادة من تلك الخبرات فى مرحلة صناعة الثورة.
أما قوى الهامش السودانى فعلى الرغم من قاعدتها الجماهيرية الكبيرة التى يمكن أن تساهم فى صناعة التغيير إلا أن العنف الذى إنتهجته الإنقاذ كوسيلة وحيدة للتعامل معها حيال رفعها لمطالبها العادلة، جعلها تتوجس من كل ماهو قادم من المركز غض النظر عن ماهية هذا القادم فهو يعد فى نظرها محاولة أخرى للإلتفاف عليها وإحتوائها عن المطالبة بحقوقها التى علا سقفها حد مطالبة بعضها بحق تقرير المصير عن الوطن السودانى، وبالرغم من هذه التناقضات إلا ان التيار الليبرالى السودانى يتفق ويختلف معها فى نقطتين جوهريتين بالنسبة له وبالنسبة لها، فالنقطة التى يتفق فيها معها هى التأكيد على المطالبة بقيام دولة ديمقراطية علمانية ليبرالية فيدرالية، والنقطة التى يختلف فيها معها هى إنتهاج العمل العسكرى المسلح كوسيلة لصناعة التغيير، من هنا تبرز ضرورة إختراق التيار الليبرالى لتلك القوى وإقناعها بضرورة دعم العمل الثورى السلمى دون دعوتها للتخلى عن إستراتيجية العمل المسلح، وضرورة إعطائها التطمينات اللازمة بمستقبل السودان الديمقراطى الليبرالى الذى سوف يحفظ له كينونها الثقافية والعرقية فى إطار الوطن الواحد، وهذه القوى تلقائياً سوف تتخلى عن حمل السلاح حال تحقق التغيير الذى يلبى مطالبها، وفرصتها أكبر فى أن تصبح سنداً جماهيرياً للتيار الليبرالى السودانى.
إن الحالة السياسية السودانية بتناقضاتها وتقاطعاتها تلك تفتح الباب على مصراعيه للتيار الليبرالى السودانى لتقدم الصفوف وطرح نفسه بديلاً مناسباً للنظام الإنقاذى الذى مزق وحدة البلاد بسياسته الإقصائية البغيضة، وعمل على تبنى نهج التهميش السياسى والثقافى والإجتماعى تجاه مختلف العرقيات (اللأ شمالونيلية)، وخرب الإقتصاد الوطنى عبر حمايته ودعمه لآلة الفساد التى وضعت 90% من الشعب السودانى فى خانة الفقراء؛ وإن كانت ثورات المحيط الأقليمى السودانى قد مكنت لصعود تيارات الإسلام السياسى كقوى مستقبلية بديلاً للنظم الإستبدادية اللأدينية التى صار ينظر إليها من زاوية الماضى الواجب إجتثاثه، فإن التيار الليبرالى السودانى يعد الأوفر حظاً للتقدم كتيار مستقبلى لبناء الدولة السودانية الديمقراطية اللأدينية، بديلاً لدولة الإنقاذ الدينية لمستبدة التى يؤمن الشعب السودانى بأنها باتت أيضاً من الماضى الواجب إجتثاثه.

اللص و (البرلوم)

عبدالهادى الحاج

الساعة تعلن تمام الحادية عشر مساء موعد حصاد اليوم الإخبارى على قناة الجزيرة .. والخبر الثانى بعد حمامات الدم السورية وقرارات الجامعة العربية كان عن السودان .. الجزيرة عادة لاتعطى الخبر موقعاً متصدراً إلا إذا كان هنالك مايوازيه من الأهمية فى فحوى الخبر ..فالحدث حسب ماحمله عنوان الخبر كان هو تكوين الجبهة الثورية السودانية التى نصبت هدفها الأول والاوحد الإطاحة بحكومة البشير .. عنوان الخبر كان محفزاً للتسمر أمام الشاشة وإنتظار التفاصيل التى قد تكشف المزيد عن مايحمله التحالف الوليد من رؤى وإستراتيجيات ربما تجود بالخلاص لاهل السودان .. الإستماع للخبر الأول ذى الصلة بسوريا كان مملاًًً .. فمشاهد قتل المدنيين وسفك الدماء وقصف المدن باتت امراً طبيعياً نشاهده كل يوم بل على رأس كل ساعة ونحن نحتسى كوباً من الشاى الدافئ أونشعل سيجارة ننفُس فيها شيئاً من غضبنا المستتر والمعلن ..وأخيراًَ مذيعة النشرة تطلعنا على ان الحركة الشعبية (شمال) وحركة العدل والمساواة وحركة تحرير السودان جناحى (عبدالواحد ومناوى) قد اعلنوا جميعاً عن ميلاد جبهة سوف تسقط حكومة البشير وان الأخيرة قد اشارت بأصابع إتهامها لدولة الجنوب حديثة الولادة أيضاً.. لكنها حتماً قد ولدت بأسنانها طالما أن سقف طموحاتها قد وصل حد التفكير فى العمل على خلاص بقية أقاليم السودان المهمشة من نظام البشير كما فعلت هى وهى لم تحتفل بأولى ذكرى لإستقالالها بعد.. ليأتى تأكيد وزير إعلام البشير كمال عبيد (صاحب الحقنة الأشهر فى تاريخ السودان) مؤكداً أن حكومته سوف ترد على حكومة الجنوب فى الوقت المناسب والمكان المناسب بالكيفية المناسبة..
لم يكد التقرير الإخبارى يصل نهاياته حتى اعلن المذيع الذى كان يناصف زميلته إذاعة النشرة انهم يحدثون من الخرطوم قطبى المهدى القيادى الكبير فى حكومة البشير وحزبه .. بدا قطبى شاحب الوجه كسير العين خفيض الصوت تبدو عليه علامات الحياء.. مالبث بعدها يكيل التهم جزافاً لدولة الجنوب ويكشف علاقتها بالجيش الشعبى (شمال) وكيف أن قادته كانوا ولايزالون (كومندرات) فى الجيش الشعبى (الأب) وأن هنالك مؤامرة أكبر من الجيش والحركة الشعبية والدولة الوليد ذات الأسنان .. تحاك ضد نظام حكمه وضد البلد التى يضعها فى مخيلته و...و... و...المشهد بات مبعثاً للضحك الهستيرى .. هل هذا هو قطبى الذى فتح بلاغاً بأحد اقسام الشرطة قبل أقل شهر يتهم فيه مجهولين بالسطو على منزله ليلاً وسرقة آلاف الدولارات ومثلها من العملة الأوربية والريالات والليرات والدنانير والدراهم والجنيهات غير السودانية طبعاً .. كل ذلك والبلاد تعانى أزمة إقتصادية وأزمة فى النقد الأجنبى لم تشهد مثلها فى قريب الأيام وبعيدها .. كل ذلك ووزير مالية حكومة بشيره يطالب الشعب السودانى بالتقشف وربط الأحزمةً (والعودة للكسرة وأم رقيقة).. بل وأن بشيره نفسه يعلن أنه سوف يعمل على محاربة الفساد المحدود على حسب مايتصور ويعتقد أن الشعب السودانى يتصور مايتصوره.. ثمة تساؤل يلح على طرح نفسه ترى من هو اللص الحقيقى ؟؟ هل هو ذلك الذى إستباح منزل قطبى المهدى وأختلس ماحوى من أموال أجنبية فى جوف الليل ؟؟ أم هو ذلك الذى إستباح وطناً بأمياله المليون قبل ان يفتته إلى آلاف الكيلومترات ليختلس من خزائن أمواله بقدر ما أوتى من جبروت فى وضح النهار؟؟..
عادت مذيعة قناة الجزيرة مرة أخرى لكن هذه المرة لتقول أنها تحدث آخر من باريس عرفته بأنه نائب رئيس حركة العدل والمساواة الدارفورية المقاتلة وإحدى أطراف التحالف الوليد..تعريف الضيف القادم يبعث شيئاً من التفاؤل بان الحديث سوف يعود لفلكه المنطقى .. لكن هيهات فالضيف ينبهر بالكاميرا المنصوبة امامه ويتعلثم فى الحديث .. يهنئ الشعب السودانى تارة .. ويدعو الأحزاب السياسية للحاق بركبهم تارة أخرى .. لم يستقر على كنية يتواصل بها المذيعة الأنيقة التى تحادثه فحيناً (سيدتى) وأحياناً (أختاه).. كما حديثه الذى شكل خليطاً بين الفصحى والعامية .. الأفكار تتشتت والمذيعة تحاول بلباقة إعادة الحوار لموضعه.. فتسأله عن الآلية التى سوف يسقطون حكومة البشير .. ليقول أن مناصريهم بالداخل سوف يخرجون فى (مسيرات) تأكيداً على رغبتهم فى إسقاط البشير وحكومته .. أنهت المذيعة المقابلة ولم ينكأة ضيفها الباريسى جراح الأزمة الإقتصادية الطاحنة التى تنخر عظم المواطن السودانى .. ولم ييمم وجهه شطر دارفور التى يمثلها ليحدثها عن التطهير العرقى والإبادة الجماعية وبشيرها الملاحق دولياً قبل أن يلاحق محلياً .. ولم تسعفه الذاكرة للعود سويعات للوراء للحديث عن قصف معسكرات النازحيين داخل الدولة الوليدة..
(البرلوم) مصطلح يطلقه الطلاب الجامعيين القدامى على الوافدين الجدد من المدارس الثانوية قبل أن يتأقلموا على البيئة الجامعية وطرائق التعامل داخلها فكراً وسلوكاً .. وكما فى الحياة الجامعية (برالمة) .. فليس بعيداً أن يكون فى الحياة السياسية (برالمة سياسيون).. وتحالف الجبهة الثورية السودانية وضع عليه الشعب السودانى ما تبقى لديه من آمال.. ومن النادر فى ظل زخم ثورات الربيع العربى ان تتيح قناة الجزيرة مثل تلك الفرصة الذهبية لأى جهة سودانية معارضة لتوجه سهامها الإعلامية صوب حكومة البشير.. ومشهد (البرلوم الباريسى) واللص (الإنقاذى).. يفاقم المرارات التى ماعادت تحتمل.. ويفتح للبؤس طريقاً ليخترق الأفئدة .. وينهش جرحاً لايزال يذكرنا بمن يحكمون بأسمنا ومن يعارضون بأسمنا أيضاً.

الأربعاء، 2 نوفمبر 2011

أسلوب حياة الهدندوة بقاء تراث ثقافى (2ــ4)

د. لايف مانجر
ترجمة : مجدى النعيم
مراجعة : جعفر بامكار



يعالج هذا الفصل البقاء الإجتماعى– الثقافى للهدندوة. ويوضح أن البقاء فى الجبال لا يقوم على الموارد الإقتصادية فحسب، وإنما على الموارد الثقافية أيضاً. والمفاهيم الرئيسية التى نناقشها هى المنحدر والقرابة ، والشرف والهوية. ويوضح الفصل أن هذه العناصر تتشكل من كم هى الأرض مركزية فى ثقافة الهدندوة ، ثم يمضى قدماً ليوضح مختلف أنواع التغيرات التى حدثت بسبب الإندماج المضطرد للهدندوة فى مجتمعهم السودانى الأوسع. ففى هذا المجتمع يقابل الهدندوة مجموعات أخرى من الناس مثل التجار ووكلاء الدولة النافذين. وهذا الإحتكاك هو ضرب من اللاتساوى الثقافى. ويوضح نقاشنا هنا كيف يتعامل مختلف الهدندوة مع هذا، بعضهم يتبنى قسماً من الثقافة المهيمنة، لكن آخرين، مثل النساء، يستفدن منه بتحدى وضعهن داخل المجتمع التقليدى. لذا يبدو إستمرار الهدندوة عملية معقدة يجب ألا تختزل إلى محض صراع من أجل البقاء فى بيئة هامشية.

مقدمـة :
يجب ألا تختزل بقاء الهدندوة على صراع يتكون فقط من الإعتبارات الإقتصادية داخل بيئة طبيعية معينة. فحياة الهدندوة معنية، بالطبع، بأشياء وهذه الجوانب هى العوامل الإجتماعية–الثقافية التى تعطى المباراة الاقتصادية شكلها وتساعد عل تشكيل تصورات الناس عن البيئة الطبيعية والأصول الإقتصادية مثل الحيوانات ومشاركتهم الشخصية فى الحياة اليومية.
إذن فهذا الفصل يعالج هذه العوامل الإجتماعية– الثقافية. فهو يسعى الى تأسيس المكونات الإجتماعية– الثقافية الرئيسية لأسلوب حياة الهدندوة . تشمل المفاهيم الأساسية لنقاشنا المنحدر والقرابة والقرابة والشرف والهوية الخ.. ونقارب هذه القضايا بطريقتين. أولاً, بتأسيس العناصر الرئيسية المكونة لهذه الأبعاد الاجتماعية – الثقافية، أي المؤسسات، والمفاهيم الأساسية المنحدر والقرابة والشرف والهوية إلخ.. ونقارب هذه القضايا بطريقتين .. أولاً ، بتأسيس العناصر الرئيسية المكونة لهذه الأبعاد الإجتماعية – الثقافية ، أى المؤسسات ، والمفاهيم الأساسية الخ.. وثانيا سنحاول أن نشير كيف تأثر هذا بالسياقات الاجتماعية –وسيركز هذا النقاش أيضاً على تكيف الهدندوة كمباراة إدارة ، لكنها إدارة لأصول ذات نوع مختلف عن تلك الأنواع , أعني ذات طابع إجتماعي – ثقافي , يرتبط علي وجه الخصوص بمفهوم الشرف (دوراريت). ويجب النظر إلى هذه المباراة الإدارية في سياق الحقائق التاريخية التي يجد الهدندوة انفسهم فيها لذا سيكون الهدف المهم هو تحديد تأثيرات مختلف أنواع العمليات .

دور الإسـلام :
الملمح الثانى المهم فى هوية الهدندوة هو الإسلام. ويرتبط دخول الإسلام بالتعاهد مع الجماعات العربية التى أشرنا لها آنفاً. وهؤلاء العرب قدموا متأخرين للمنطقة، فقد جاء الليبيون والمصريون والإغريق والرومان والمرويون والأثيوبيون الى المنطقة قبل العرب ليبحثوا عن الذهب ويسيروا القوافل عبر المنطقة. وقد دخل النفوذ العربى فى البداية عبر تجار أفراد أو مجموعات صغيرة من الرعاة. وفى عام 831 تم توقيع معاهدة تنظم التعاقد بين المجموعتين وفى النهاية أخضع العرب البجا وتلى ذلك فترات من التزاوج والإمتزاج، أدت الى ظهور مختلف العشائر التى وصفناها آنفاً. ومع ذلك فالهوية العربية لم تسد وسط الهدندوة أبداً وإنما إمتزجت بالهوية المحلية. لكن الإسلام كدين تجذر، وقدر له أن يلعب دوراً أساسياً فى تحديد هوية الهدندوة. ويمكن القول أن عملية الإمتزاج بين العرب والبجا وتحول الهدندوة الى الإسلام قد تمت فى القرن التاسع الميلادى. وتشهد شواهد القبور الإسلامية الحجرية القديمة والمساجد القديمة فى سنكات على هذا .
والعامل الثانى وراء انتشار الاسلام هو بزوغ باضع وسواكن كميناءين مهمين على ساحل البحر الأحمر. وقد جذب موقعهما الاستراتيجى وأنشطتهما التجارية المزدهرة التجار مصريين وأتراك وأكراد ويمنيين وهنود. بينما دعا التجار الأثرياء فى حجهم الى مكة كبار العلماء المسلمين ، خاصة أتباع المذهب الشافعى منهم ، ليصحبوهم فى عودتهم الى موطنهم. وقد تحولت سواكن أيضاً بجانب كونها ميناء مهماً، الى مركز للتعليم الاسلامى يؤثر على الأماكن المجاورة له مثل سنكات (مسجدا تاج السر والمجازيب) , بجانب تأثيرها على مناطق أبعد من ذلك .وقد لعب المسجد الحنفي والشافعي والمجيدي والشناوي دورا كبيرا في نشر المذهبين الشافعي والحنفي في شرق السودان ,على خلاف بقية السودان ,حيث يسود المذهب المالكي.
شهد القرنان الثامن والتاسع عشر أحداثا كبيرة أثرت على هذه الصورة. أولاً، فقدت سواكن موقعها كمركز بسبب أنواع السفن الجديدة وخطوط التجارة الجديدة . ثانياً إنتشار الصوفية وبالتالى الطرق الصوفيةفى المنطقة ، خاصة الختمية فى سنكات والمجذوبية فى أركويت ، وكلاهما طرق حضرية ومركزية. ثالثاً ، وفر ظهور المجذوبية سبباً للصراع بين هذه القوى الإسلامية ، خاصة أن الختمية قد إنتهوا كقوة معارضة للمهدية ، بينما ساند المجاذيب الحركة المهدوية .
وبجانب التنظيمات الأكبر مثل الختمية ، التى تقوم على النطاق الوطنى ، فإن المجموعات الإسلامية المحلية وسط الهدندوة اليوم ذات طبيعة ريفية وأصل هدندوى. فالمراكز الريفية الصغيرة للفروع الدينية منتشرة فى مختلف المناطق ، وتقوم على نفوذ الشيخ وبركاته. وهذه الوحدات هى السمرندواب والشيبوديناب والهاشيندواب والكنجر والإبشار والأشراف والهاكولاب والكميلاب . وقد يكونون متخصصين فى خدماتهم ، فالإبشار مثلاً يتخصصون فى الإضطرابات العقلية . وفى هذه المركز الدينية تتم المناسبات الإجتماعية المهمة مثل الزواج والمآتم والإجتماعات العامة والإحتفالات الدينية. وفى هذه الأماكن نجد أيضاً الخلاوى (المدارس الدينية) التى تتيح الفرصة للهدندوة الريفيين لتعلم القراءة والكتابة .
وهكذا فالبعد الإسلامى المنظم يتمثل من خلال المنظمات الإسلامية الأكبر ذات الأهمية على النطاق الوطنى والمنظمات المحلية المرتبطة بالتنظيم الإجتماعى للهدندوة على السواء. فقد تخصصت عشائر معينة فى وظائف دينية معينة. ويمثل الأشراف مجموعة مهمة حيث لا يزعمون الإنحدار من الهدندوة بل الانحدار من الرسول مباشرة. وهم يمثلون الرابط بالختمية.

العناصر الأساسية للمجتمع الهدندوى :
المنحــدر

تحدد الموضوعات التى أجملناها فيما تقدم أشياء مهمة تشغل الهدندوة . وقد ذكرنا الخطابات حول الأصل بنقاشاتها حول أهمية تتبع المنحدر حتى "باركوين" بشكل مباشر من ناحية الأب مقارنة بالقرابات التى أدمجت فى المجموعة من خلال القرابات عن طريق النساء. ويوضح هذا القصتان التاليتان حول الأصل..
القصة الأولى يرويها مختلف الهدندوة الذين يتتبعون بفخر منحدرهم مباشرة من أبناء باركوين مثل جميلاب وقورهباب وشبوديناب الخ. والقصة الأخرى أقل شيوعاً وتتبناها المجموعات التى تنظر لها المجموعات الأخرى بدونية لأنهم دخلوا القبيلة من خلال القرابات عن طريق النساء. الصيغة الأولى من القصة يرويها رجل من الجميلاب، وقد أكدها لاحقاً حاج حامد ، وهو رجل من الهدندوة يبلغ السبعين من العمر ، ومعترف به وسط أهله كـ "سوركناب" (أى رجل حكيم يستشيره أهله لحل مشكلاتهم). ويسرد حاج حامد القصة كالتالى :
كانت هدات إمرأة متدينة محترمة. يزور أهلنا عادة قبرها وهم يحملون الطعام والماء ليتناوله المحتاجون. وفى زياراتنا لقبرها نحفظ ذكراها ونسأل الله أن يرحمها. وقد ولدت من أب عربى وأم هدندوية. وقد جاء والدها محمد العلوى من الحجاز عبر البحر الأحمر الى سواكن. وفى سواكن إلتقى بشاكوتيل الملك البجاوى الشهير. وقد زوج الملك إبنته الى محمد العلوى فأنجبا "هدات" ومعناها اللبوة . وتزوجت جدتنا هدات لاحقاً شريف آخر إنحدر من الرسول، وقد جاء بدوره من الحجاز. فأنجبت هدات منه محمد المبارك الذى عرف بباركوين ( الذى لا يخاف). تزوج باركوين وأنجب سبعة أبناء أصبحوا مؤسسى قبائل الهدندوة المعروفة اليوم. وقد هاجر باركوين وأسرته الى أوكر ، المكان الذى نجلس فيه الآن ، حيث كان الفونج والبلاوين (أثيوبيين) يقاتلون بعضهما لإمتلاك المكان . فحارب باركوين وأسرته ضد كليهما وهزموهما فى معركة قريبة من أدوريوت المجاورة لأوكر وأسروا سبعة من نسائهم . وتزوجت هؤلاء النسوة لاحقاً من رجال الهدندوة فإندمجوا بالتالى فى قبيلة الهدندوة الناشئة . لكنى لا أتذكر الى أى فرع من الهدندوة تنتمى سلالة هؤلاء النسوة . وعندما زاد عدد أسرة باركوين إنتشروا ، فى كل المنطقة ، وعندما هاجرت كل أسرة الى منطقة جديدة شكلت دوابا (عائلة) .
الصيغة الأخرى من قصة أصل الهدندوة يرويها شيخ من الحامداب وتسير كالتالى:
هدات عربية خالصة جاءت مع والدها الى سواكن حيث إلتقت بباركوين ، وهو شريف من العرب . تزوج هدات باركوين وأنجبا أبنائهما السبعة الذين أصبحوا الآباء المؤسسين للهدندوة .
تقدم القصة الأولى الهدندوة كهجين من العرب والبجا ، بينما تصورهم القصة الثانية كعرب خُلص . واللافت أن الناس الذين ينتمون الى النوع الآخر من القبائل يزعمون الإنحدار من العرب ليقوضوا فكرة أن الإنحدار بالأب فقط من باركوين هو الذى يجلب الشرف (السابق) . ومع ذلك ، والحالة كهذه تأخذ القبائل غالباً اسم ابن ممن نتجوا عن هذه العلاقة . وهذا الوضع الخاص يمكن توضيحه بالقصة التالية حول زواج بورا ابنة جميل حفيد باركوين ومؤسس فرع الجميلاب .
تزوجت بورا برجل من الشكرية يسمى حامد. وكان حامد لاجئاً (هاسيبيب) هرب من قبيلته بعد أن قتل رجلاً . فطلب ، فى ويرباب موطن الجميلاب ، الحماية. وافق جميل على حمايته وجعله راعياً لبعض حيواناته . وطلب منه جميل، لتوثيق العلاقة معه ، تزويجه ابنته بورا. فوافق حامد حتى بدون أن يرى بورا . وسرعان ما اكتشف قبحها فى أحد الأيام عندما دخل منزله ووجدها فى نوم عميق . وعندما رأى وجهها صدم وهرب من المعسكر. وكانت بورا وقتها حاملاً فأنجبت لاحقاً ولداً سماه خاله بشارة ( من البشرى). وتزوج حامد الذى هرب قبيلة من إمرأة أخرى من قبيلة قرئيب. فشكل أبناؤه من المرأة القرئيبية دواباً مستقلاً. لكن سلالة حامد أصبحت تعرف بالبشارياب. وهم سلالة بشارة الذى نجح فى مراكمة الثروة والعديد من الأبناء .
ذكرنا آنفاً أن الزواج المفضل وسط الهدندوة هو الزواج داخل القبيله فمن خلال هذه الزيجات يتم الحفاظ على وحدة القبيلة والأرض ، وبالتالى شرف القبيلة ولكن الزواج بغير الأقارب قد يكون له نتائج مشابهة . والآلية الأساسية لتسهيل هذا هى قاعدة أن يقيم الزوج بين جماعة أم زوجته. وسيدمج فروع هذه العلاقات كأعضاء منتظمين فى القبيلة لهم الحقوق الكاملة فى المشاركة فى ما تملكه القبيلة من أصول. وكما ذكرنا فإن مثل هذه الفروع تمنح غالباً اسم القبيلة ، مما يضفى عليهم مظهر المنحدر الهدندوى العادى. ونفس هذه العملية تسمح أيضاً لغير الهدندوة بالزواج من الهدندويات مثل حالة طالب الحماية (هاسيبيب). قد يكون هؤلاء اللاجئين هاربين من جماعاتهم ، بل يستقرون لاحقاً مع قبيلة مختلفة. وهنا قد يعاملون كإخوة ، وقد يعملون كرعاة لشيخ . وعلاقة التبعية هذه قد تنمى الثقة والتسامح بحدوث الزواج .

الأرض :
الأرض بالنسبة للهدندوة هى الهبة التى يتوارثونها عن أجدادهم الذين فازوا بها من خلال القتال المشرف ، ضد الآخرين لذلك فهى تتكئ على فكرة الميراث الذى يجب أن يحمونه ، ورمز للكرامة يعزز مكانتهم الاجتماعية والسياسية. لذلك يرتكز نظام ملكية الأرض عند الهدندوة الذي وصفناه في الفصل الثالث على مفهوم الشرف والاستقلال. وتكون مختلف المناطق التي تشغلها قبائل معينة مجمل منطقة الهدندوة بمثلما تكون هذه القبائل نفسها الهدندوة ككل. والارض والشرف على السواء يجب الدفاع عنهما على عدد من المستويات , ضد القبائل الاخرى غير الهدندوة أيضا. وجوهرها هو أن فقدان الإستقلال والسيطرة على الأرض سيعرض الشرف الجماعي للخطر ويضع الجماعة في موقف أضعف .
الأرض جديرة بالاحترام. ومن يتعد على أرض الأخرين كمن ينتهك صراحة حدودك الخاصة. وإذا كنت تحافظ على شرفك فأنت تستحق أن تكون رجلا وإن لم تحافظ عليه فأنت لاتستحق أن تكون. والنساء اللاتي لا رجال لهن يحموهن معرضات للخطر مثلما تتعرض الأرض لتعدي الأخرين .
وتأتي حيازة هذه الأرض من خلال العضوية في الجماعة, وقد رأين كيف أن المنحدر والزواج/ الإقامة توفر الميكانيزم الأساسي الذي يتم تحقيق هذا به. ويحصل الفرد بفضل هذا الإنتماء على الوصول إلى المياه والمرعى وحق بناء سكن دائم. وهذا النوع تفضل الحقوق الهدندوة التقليدية (العرف / الأوسلف) على الحقوق الاسلامية (الشريعة). ومن خلال هذه الترتيبات العرفية يتم استيعاب الأقارب من ناحية الأب والغرباء كلية في القبيلة وقد يكتسبون أيضا هذه الحقوق الأصلية. ومثلما يستطيع الافراد الاندماج ,تستطيع القبائل أو (الدوابات )أيضا أن تفعل ذلك .
إذن فهى حقيقة أن الأفراد من غير أعضاء القبيلة أيضاً يستطيعون أن يحصلوا على هذه الأرض بدون الإندماج فى القبيلة كلية . وهذه الحقوق الممنوحة تسمى حقوق "الأمارة". وهذه العلاقة يرمز لها بـ"القودب" وهو قطعة من اللحم تقدم للجماعة مالكة الأرض كرمز للعلاقة. ويسمح لأفراد المجموعة صاحبة الأمارة الإستفادة من وسائل العيش المتاحة لكن لا يسمح لهم بتأسيس هياكل ثابتة ودائمة على الأرض. إن حقوق الأمارة مرنة فمن خلالها يظهر الهدندوة كرمهم تجاه بعضهم البعض ، أى التصرف من منطلق لغة الشرف ، لكنهم صارمين جداً فيما يتعلق بالعلاقة بالأرض ، أعنى مصدر هذا الشرف .
وهذا الوضع المحدد يعطى ملكية الأرض عند الهدندوة أهمية كبيرة ويضفى على النزاعات حول الأرض شدة قد لا تتناسب مع الحجم "الموضوعى" للمشكلة نفسها. وبالمثل فإدارة النزاع والوساطة لا تعنى حل مشكلة ملموسة فحسب وإنما التعامل مع هذا الوضع المعقد .
يرتبط حل النزاعات وسط الهدندوة فى البنية السياسية للقبيلة ، أى الناظر والعمد والشيوخ. ويتدخل الناظر فى حالات معينة وغالباً يتعامل الشيوخ والعمد مع كل الحالات المحلية التى تظهر. ويستدعون فى مثل هذه الحالات مجلساً (يسمى الجلاد) يدير القانون العرفى. وبجانب القادة القبليين المذكورين يتكون المجلس من العقلاء (سوركناب) وبعض الأعضاء المحايدين من القبائل المجاورة .
ولا ترتبط وظيفة حل النزاعات بالقضايا المتعلقة بالأرض فحسب ، وإنما بالحالات الأخرى التى تتعلق بشرف الأطراف المعنية ، مثل القتل والإصابات والسرقة. وفى حالات القتل يعقد مجلس " الجلاد" ويستدعى أقارب الطرفين (الضحية والقاتل) للحضور. ويخير أبناء الضحية وأقاربه بين سوق المتهم الى المحكمة أو قبول الفدية. وإذا قبلت الفدية فإنها تصبح مسئولية أفراد القبيلة يتقاسمون دفعها ويقدمونها الى أقارب الضحية، لكن فى حالات القتل حتى دفعت الفدية يعتبر القتل إهانة شخصية لأسرة الضحية، لذا ينصح القاتل فى معظم الأحيان بالمغادرة الى منطقة أخرى.
إذا تسبب شخص ما فى الإصابة آخر فإن "الجلاد" تفحص مبلغ الإصابة. وإذا وجدت الإصابات خطيرة يطلب من أقارب الطرف المصاب تحديد مبلغ المال الذى يطلبونه (تسمى الإصابات بواسطة السكين والعصى المسرانئيب).وفى حالة الإصابة الخفيفة يترك تقدير الغرامة لأعضاء الجلاد الذين يضعون فى إعتبارهم ، فى كل الحالات ، مستوى معيشة الدواب.
وعندما يكون أعضاء الدواب ، فى بعض الأحيان ، أفقر من أن يدفعوا الغرامة ، يتقاسم أعضاء الجلاد الغرامة نيابة عن أسرة المتهم. وعلاوة على ذلك ، إذا كان المصاب فى المستشفى أو أى مكان ، آخر فإن كل أقاربه يزورونه ويدفعون مبلغاً للتضامن معه يسمى "التيدانى" . كما يتلقى المصاب هدايا من أقارب المتهم كرمز لحسن النية والتسوية. وإذا قدمت القضية للمحكمة ، الأمر الذى يعتمد على تدخل الشرطة فى الحالات المعقدة ، مثل النزاعات التى تسبب القتل والإصابات لأعضاء الطرفين ، فإن "الجلاد " تعمل بالتعاون مع المحكمة. فتقتصر مسئولية المحكمة على تطبيق الحكم النهائى للجلاد. وبعد تحديد مقدار المبلغ ، يتقاسمه أقارب المتهم ويقدمونه الى الشيخ الذى يقدمه بدوره الى أقارب المصاب فى حضور القاضى .
وفى حالة السرقة تطلب الجلاد من اللص إعادة المسروقات. وإذا باعها أو إستهلكها ، يسأل مالك المسروقات أن يطلب تعويضاً أمام الجلاد أو المحكمة. وهنا أيضاً تقع مسئولية الدفع على أقارب المتهم الذين يتقاسمون عبء الغرامة فيما بينهم. ويخفف هذا التضامن فى حماية المتهم التوتر بين أعضاء المجموعة ويعزز فى نفس الوقت فكرة الـ(أو بوى) أو روابط الدم المشترك. وتعزز دلالة تقاسم المسئولية بين أعضاء المجموعة كما يمثلها تبادل الهدايا ، والمال الذى يدفع فى المناسبات ، مثل "التيدانى" والزيارات بين الأقارب روابط القربى القائمة أصلاً وتكفل إستمرارها وثباتها. وهكذا تتعزز مشاعر التضامن والوحدة من خلال روابط القرابة الوثيقة ، والإقامة فى منطقة واحدة ، والزواج بين الأقارب ، والتمسك بالأرض وتتم المحافظة على هوية المجموعة وسمعتها .

السبت، 29 أكتوبر 2011

أسلوب حياة الهدندوة بقاء تراث ثقافى (1-4)

د. لايف مانجر
ترجمة : مجدى النعيم
مراجعة : جعفر بامكار


يعالج هذا الفصل البقاء الإجتماعى– الثقافى للهدندوة. ويوضح أن البقاء فى الجبال لا يقوم على الموارد الإقتصادية فحسب، وإنما على الموارد الثقافية أيضاً. والمفاهيم الرئيسية التى نناقشها هى المنحدر والقرابة ، والشرف والهوية. ويوضح الفصل أن هذه العناصر تتشكل من كم هى الأرض مركزية فى ثقافة الهدندوة ، ثم يمضى قدماً ليوضح مختلف أنواع التغيرات التى حدثت بسبب الإندماج المضطرد للهدندوة فى مجتمعهم السودانى الأوسع. ففى هذا المجتمع يقابل الهدندوة مجموعات أخرى من الناس مثل التجار ووكلاء الدولة النافذين. وهذا الإحتكاك هو ضرب من اللاتساوى الثقافى. ويوضح نقاشنا هنا كيف يتعامل مختلف الهدندوة مع هذا، بعضهم يتبنى قسماً من الثقافة المهيمنة، لكن آخرين، مثل النساء، يستفدن منه بتحدى وضعهن داخل المجتمع التقليدى. لذا يبدو إستمرار الهدندوة عملية معقدة يجب ألا تختزل إلى محض صراع من أجل البقاء فى بيئة هامشية . مقدمـة : يجب ألا تختزل بقاء الهدندوة على صراع يتكون فقط من الإعتبارات الإقتصادية داخل بيئة طبيعية معينة. فحياة الهدندوة معنية، بالطبع، بأشياء وهذه الجوانب هى العوامل الإجتماعية–الثقافية التى تعطى المباراة الاقتصادية شكلها وتساعد عل تشكيل تصورات الناس عن البيئة الطبيعية والأصول الإقتصادية مثل الحيوانات ومشاركتهم الشخصية فى الحياة اليومية. إذن فهذا الفصل يعالج هذه العوامل الإجتماعية– الثقافية. فهو يسعى الى تأسيس المكونات الإجتماعية– الثقافية الرئيسية لأسلوب حياة الهدندوة . تشمل المفاهيم الأساسية لنقاشنا المنحدر والقرابة والقرابة والشرف والهوية الخ.. ونقارب هذه القضايا بطريقتين. أولاً, بتأسيس العناصر الرئيسية المكونة لهذه الأبعاد الاجتماعية – الثقافية، أي المؤسسات، والمفاهيم الأساسية المنحدر والقرابة والشرف والهوية إلخ.. ونقارب هذه القضايا بطريقتين .. أولاً ، بتأسيس العناصر الرئيسية المكونة لهذه الأبعاد الإجتماعية – الثقافية ، أى المؤسسات ، والمفاهيم الأساسية الخ.. وثانيا سنحاول أن نشير كيف تأثر هذا بالسياقات الاجتماعية –وسيركز هذا النقاش أيضاً على تكيف الهدندوة كمباراة إدارة ، لكنها إدارة لأصول ذات نوع مختلف عن تلك الأنواع , أعني ذات طابع إجتماعي – ثقافي , يرتبط علي وجه الخصوص بمفهوم الشرف (دوراريت). ويجب النظر إلى هذه المباراة الإدارية في سياق الحقائق التاريخية التي يجد الهدندوة انفسهم فيها لذا سيكون الهدف المهم هو تحديد تأثيرات مختلف أنواع العمليات . من هـــم الهدندوة ؟ الهدندوة هم القسم الأكبر من مجموعة البجا وتتحدث لغة التبداوى من الفرع الكوشتى (عائلة فرعية من العائلة الاسيوية – المترجم) والعنصر الأساسي الدي يحدد الأصل والهوية الهدندوية هو نظام القرابة. وترجع كل المجموعات الهدندوية أصلها إلى أبناء باركوين السبعة (الجد الأسطوري) هدات (الجدة الأسطورية). وترجع كل السلالات أصلها إلى باركوين, لكن هناك تمييز مهم بين السلالات التى تزعم انحدارها من واحد من أبناء باركوين والثلاثة المنحدرين من بناته وحالة هذه المجموعات الأخيرة تتضمن سلفا عربيا ذكراً. لذا فقد دخلت نقطة مهمة حول أصل الهدندوة سلفا كموضوع أساسي في تاريخ نسبهم , أي علاقة النسب من خلال الرجال ومن خلال النساء داخل مجموعة الهدندوة وموضوع العلاقة بين الهدندوة كمجموعة بجاوية والعرب. ومع ذلك فالشعور بأن الانتماء الإثنى لكل الهدندوة يرتبط بالاعتقاد في الانتماء لأصل مشترك هو حقيقة. وهذه الوحدة تقوم على الدم (او بوى). فعلاقة الدم هي اساس قرابة الهدندوة وهي موروثة من الأسلاف لذلك يجب الحفاظ عليها .وأحد سبل الحفاظ على السلالة موحدة هوالزواج داخل القبيلة. والرمر الثاني الرئيسي لوحدة القبيلة هو الأرض المشتركة التى ترمز إلى المنجزات التاريخية للأسلاف. وهنا تجب حماية الأرض وإدارتها بطرق تحافظ غلى الشرف الجماعي للهدندوة. وهكذا تدور وحدة الهدندوة حول قيم أضيفت على البنية القبلية كما حددتها السلالات المنحدرة عن الأب , والحقوق المشتركة في الارض ,واللغة المشتركة. وتتجلى الوحدة أيضا في توزيع وقبول مختلف الادواروسط مختلف المجموعات الفرعية لذا فقد أسند (للويلألياب) دور القيادة السياسية والعسكرية ويحتل الهاكولاب موقع النصح والتحكيم (الشورى) بينما يتولى الشبوديناب رمام الأمور الدينية . قبائل وبطون الهدندوة في الزمان والمكان : إنتشرت وحدات الهدندوة عبر المنطقة التى يشغلونها الآن وقد إعتمد هذا الإنتشار على القوة العسكرية والسياسية. وإن القرن التاسع عشر والعشرين مهمان بوجه خاص حيث حدثت التمازجات فى هاتين الفترتين. وكان من بين تأثيرات الإستعمار ذلك الإنتشار الواسع للزراعة المروية والزيادة الهائلة فى زراعة القطن فى دلتا القاش. فأقيمت القرى فى المواقع الإستراتيجية فى القاش وبدأ الناس المنتمين الى مختلف المجموعات الأثنية الإستقرار فيها وهاجرت القبائل من جبال البحر الأحمر الى القاش لتنضم الى هذه القرى وأصبحوا جزارين ومزارعين وخفراء ورجال شرطة وطباخين. وقد أثر هذا التاريخ على مختلف القبائل بمختلف السبل. الجميلاب هم الأكثر عدداً بين قبائل الهدندوة ومنطقتهم الأصلية قريبة من الحدود الأرترية، حوالى ثلثى المسافة بين كسلا وطوكر. وينتشرون عبرالإقليم الشرقى من سنكات الى القضارف. وتركزهم الأكبر (حوالى نصف عددهم الإجمالى) نجده حول موطنهم الأصلى ، أى حول همشكوريب ووينرباب. وقد حدث إنتشار الجميلاب خلال العقود الأربعة أو الخمسة الأخيرة. وتزامن هذا مع ميلاد ونمو طريقة صوفية جديدة تأسست فى مطلع الخمسينات على يد على بيتاى وهو رجل دين من الجميلاب. والجميلاب كانوا هم الأكثر تعرضاً لغارات البنى عامر أثناء حربهم الأخيرة مع الهدندوة. وقد بدأت هذه الحرب عندما وصل الإيطاليون فى إرتريا الى كسلا فى 1940 وإنتهت عندما نجح البريطانيون فى تهدئة المنطقة . وقد بدأ الجميلاب المعرضين للغارات البحث عن سبل بديلة للعيش خلاف الحياة الرعوية التقليدية. فتبنى على بيتاى هذه الدعوة ويذكر أحد أتباعه رسالته فى الكلمات البسيطة التالية (إنك تحب حيواناتك كثيراً وتهتم بها كثيراً . والحيوانات لا تعطيك الفرصة لتعلم القرآن. بعها وأبدأ التجارة. الرجال الكبار يجب ألا يكذبوا أو يسرقوا أبداً ، يجب أن يكونوا أمنين). وقد أعطى الوفاء بهذه التصورات زخماً جديداً لأنشطة الجميلاب ، كما منحهم ميزة على الهدندوة الآخرين أثناء الأزمات التى تؤثر على الحيوانات لأنهم لم يعودوا منخرطين فى الرعى. فإنطلقوا فى التجارة بحماسة دينية ، وبدءوا ينشرون المحطات التجارية عبر الإقليم الشرقى ويبنون بجوارها مساجد صغيرة . وقد لعب التجار أحياناً دور الشيوخ ، حيث كانوا مرتبطين أيضاً بشدة بالأنشطة الدينية التى تدور حول المسجد . وقد مكن تعلم قراءة القرآن ونسخ آيات من سوره معظم التجار الجميلاب من تعلم القراءة ومسك الحسابات وتحسين حالتهم الى حد كبير . وفى الخمسينيات والستينات حدث لهم المزيد من الإزدهار ، فقد إكتشف المزارعون فى القطن الذى يزرعونه فى دلتا القاش وطوكر يجلب أسعاراً أعلى فى الأسواق الحرة فى مينائى مصوع وعصب الإرتريين من تلك التى يدفعها البريطانيون والإداريون السودانيون من بعدهم. فبدأت إثر معرفتهم بذلك تجارة تهريب مزدهرة مع إرتريا. وقد مرت معظم حركة التهريب، حتى توقفها تماماً منذ سنوات مضت بسبب ثورة الإرتريين ضد الإثيوبيين، عبر أرض الجميلاب. وعلى الرغم من أن القبيلة ليس لها "دمر" أو موقع مملوك لها فى دلتا القاش فقد كان أفرادها يسجلون كحائزين بواسطة المؤسسة. لقد أصبح موقعهم كتجار يجد الإعتراف بشكل مطرد . وفى همشكوريب كانت المدارس القرآنية التى أسسها الشيخ على بيتاى للرجال والنساء فى حالة إزدهار فقد كان الشيخ قادراً من خلال شخصيته وكاريزمته على حث الحكومة الإقليمية على إدخال الخدمات الاجتماعية بما فى ذلك مستشفى ومحطة بيطرية فى مكان بعيد عن خطوط الإتصالات مثل همشكوريب. وإرتاد هذه المدارس القرآنية من الطلاب ليسوا من الجميلاب فقط ، بل من كل قبائل الهدندوة ومن قبائل البجا الآخرين من البنى عامر، أعداء الجميلاب السابقين. وتزوج الكثير من أفراد المجوعات الأثينية والأخرى من الجميلاب، وإندمجوا فيها. وهذا واحد من الآليات التى تشجع النمو السريع فى الأزمان المواتية . القبيلة الثانية الأكبر حجماً هى الشرعاب والشرعاب مثل الكثير من قبائل الهدندوة الأخرى ، رحل ينتقلون بين مركزين رئيسيين، واحد فى مرتفعات البحر الأحمر والآخر فى دلتا القاش ، حيث يأتى الرجال فى وقت البذر وفى وقت الحصاد. وقد تترك العائلات والحيوانات فى الجبال بسبب المناخ الصحى وعدم وجود الحشرات . ثم إنعكس الوضع بعد أن إستصلح البريطانيون دلتا القاش وأصبحت العائلات تبقى قريبة من أطراف الدلتا ، بينما تخرج منها القطعان أثناء الموسم المطير . وقد كانت مواقعهم الأولى فى العهود قبل الإستعمار فى جبال البحر الأحمر وجنوب أركويت عندما إستولى البريطانيون على دلتا القاش، تحولوا جزئيا الى دمرهم الثانى فى رقاقات، وهى منطقة غابات فى الطرف الجنوبى من دلتا القاش تقع على مسيرة ساعات قليلة من وقر وهى أكبر سوق فى النصف الشمالى من الدلتا. والكثير من التجار فى وقر حالياً الشرعاب ولا يفوقهم عدداً سوى الجعليين (من النيل) والهوسا ذوى الأصل الغرب أفريقى . يعتمد كثير من الشرعاب على إقتصاد السوق . فالكثيرون يعملون كخفراء (حراس) فى بورتسودان أو وقر. ومن لم يصبحوا سكاناً مستقرين فى القرى بل أصبحوا شبه مستقرين فى الغابة ويملكون ، بسبب الجفاف ، القليل من الحيوانات ويكسبون عيشهم من العمل بالتبادل بين الزراعة من أغسطس الى يناير وإنتاج ونقل الفحم النباتى من رقاقات من يناير الى يونيو والكثيرون منهم يهاجرون الى بورتسودان حيث يحصلون على وظائف . ويبدو أن الشرعاب قد مروا بفترة توسع أثناء الأزمنة الإستعمارية لأنهم عاشوا قريبين من دلتا القاش . وقد سمح لهم هذا بمواصلة مهنتهم التقليدية الرعوية ، كما زاد إنخراطهم فى الزراعة فى نفس الوقت. ويبدو أنه لم يحدث لهم دفع جديد مثلما حدث للجميلاب الذين بدءاو إزدهارهم فى مطلع الخمسينيات وما يزالون يعيشون مرحلة الإزدهار . ولكن يبدوا أن الشرعاب كانوا أقل تأثراً بنتائج الجفاف من القبائل الأخرى التى إعتمدت أكثر على الإقتصاد الرعوى . البشارياب عددهم يماثل عدد الشرعاب تقريباً . وكان دامرهم فى الفترة قبل الإستعمار جنوب سنكات . وقد قدموا الى القاش بعد أن أقام البريطانيون المشروع . فأقاموا دامراً ثانياً على الأطراف الشمالية لدلتا القاش مع حدود الشرعاب فى الجنوب الغربى وقد إزدهر حالهم أثناء الفترة الإستعمارية بإقامتهم إقتصادهم كلياً على الرعى . إذ كانت تربية الحيوانات ، القائمة على قطعان الجمال خاصة ، أقل إنخراطاً فى أنشطة السوق فإحتفظوا تقريباً بمهنتهم التقليدية وهى رعى الجمال والضأن . ويقال أن عائلاتهم قد عانت، خصوصاً فى الجفاف الأخير الذى إستمر طوال السنوات الأخيرة . فقد جفت المراعى القريبة من دامرهم التى تروى عادة بهطول الأمطار وأصبح يتعين عليهم أن يأخذوا جمالهم وخرافهم الى أماكن بعيدة مثل نهر عطبرة والقضارف . ونتيجة لذلك ترك للعائلات القليل من اللبن لإستخدامها الخاص . ولأن البشارياب رعاة أساساً فقد أصبحوا من بين الأكثر تأثراً بالجفاف الذى سبب نفوق أعداد هائلة من الحيوانات . وبسبب إحتكاكهم المحدود بسوق وقر ، لم يكونوا قادرين على إستكمال دخلهم بأنشطة بديلة . وقد بدءوا خلال السنوات الأخيرة الإنتقال الى أطراف قرية وقر حيث تخيم أعداد متزايدة منهم جنوبى القرية فيما أصبح أفقر جزء فيها . وهم يدخلون الآن الى بنية القرية فى أدنى مستوى ممكن يسحبون المياه من الآبار للحيوانات أو يعملون كسقاءين . وهناك تجار بشارياب قليلون جداً فى سوق وقر فى الوقت الحالى . ولكن بدأ شيوخ من نواحٍ قصية يعيشون فى القرية حيث أدركوا أهمية الإتصال بالسوق . وبسبب عزلتهم ، فإن القليلين جداً من البشارياب ملمون بالقراءة والكتابة ، ويعتبرهم الهدندوة الآخرين فظين ومشاكسين . ويلى البشارياب فى القوة ( القرئيب) . ومكانهم الأصلى جبيت ، بين سنكات وبورتسودان. والقرئيب هم أقرب قبائل الهدندوة موطناً الى بورتسودان. وقد إستفادوا من كل المزايا الناشئة عن قربهم من مركز تجارى مهم . فوفروا العمال والمستخدمين للسكك الحديدية والميناء. ويعتبرون الآن بصفة عامة أفضل الهدندوة تعاملاً والعديدون منهم أصبحوا سائقى لوارى وميكانيكين بالسكة حديد وعمال فى ورشة جبيت للسكة حديد وبعضهم مدرسون. وقد ساعدتهم تخصصاتهم على الهجرة الى مدن أخرى على خط السكة الحديد مثل سنكات وهيأ ومسمار ، لكن القليلين منهم جاءوا الى القاش. إنهم يتحضرون بسرعة . أيضاً من بين أكبر القبائل قبيلة ( السمرأر) التى كان لها موطنين ، الأول شمال سنكات والثانى فى دلتا القاش فى أوليب جنوب شرق (وقر) . وقد قطع الناس فى هذه القبيلة شوطاً أبعد فى إنخراطهم فى أنشطة السوق والزراعة ونتيجة لذلك لم يتأثروا كثيراً بالجفاف الأخير. وهم يعيشون فى قرى القاش أو المناطق المجاورة لها ويستكملون دخلهم الناتج عن الحيوانات القلية التى يملكونها بأنشطة مرتبطة بسوق القرية والزراعة. ولا تتمتع هذه القبيلة بهوية قبلية بمثل قوة هوية الجميلاب أو الشرعاب أو البشارياب. لأنهم قطعوا شوطاً أبعد فى الإستقرار. فأيدولوجيا القبيلة التى بدأت تستقر ، طغت عليها ولاءات مختلفة أكثر إلتصاقاً بحياة القرية . ومن بين القبائل المتوسطة الحجم نجد أكثرها نجاحاً ، وإن كان بسبل مختلفة ، القايداب – السمرندواب – الويلالياب وكلها رسخت مواقعها المتميزة أثناء الفترة الإستعمارية فقد كانت كانت كل قبيلة منهم تملك ثلاث شيوعات فى القاش قبل ظهور مشروع القاش. وكان المركز التقليدى للقايداب يقع بين سنكات وسواكن وقد زرعوا شيوعات فى القاش قريباً من وقر وميتاتيب. وكانوا ينقلون معسكراتهم فى الخريف الى منطقة توقوى شمال دلتا القاش ومثل القرئيب كان القايداب أول من أدرك مزايا حياة الاستقرار والتعليم. فقد أصبح العديدون منهم مدرسين وقضاة وموظفين فى الإدارة . ومن لم يلتحق بمهنة فى الإدارة إمتهن التجارة الأكثر ربحية، القائمة على معرفتهم التقليدية التى كانت مفتوحة لهم إذ أصبحوا جزارين. ولن نجانب الصواب لو قلنا أن هناك القليل من القايداب يعيشون فى المعسكرات فى الغابة ، وأقل منهم ما يزالون يعتمدون فى عيشهم على الرعى . ومن عملوا بالجزارة يمارسون تجارة مربحة ، متسقة تماماً مع تراثهم وإتجاههم . وعندما إستقر القايداب فى وقر قبل نحو خمسين عاماً جعلوا من الجزارة تخصصهم. وهم من أغنى الناس فى وقر . ومعظم أولادهم يدخلون المدارس من أجل مهن أفضل. وهم الأقرب بين الهدندوة، ومن وجهة النظر السياسية والطائفية، من الشماليين النيليين المسيطرين. ويتم إمتصاصهم فى التنظيم الإدارى والوطنى ويتوافقون أكثر وأكثر مع الثقافات النهرية السائدة. يتمركز سمرندواب شمال دلتا القاش مباشرة ، بالقرب من أودى. وعددهم نفس عدد القايداب والويلألياب، ويأتون الى دلتا القاش فى نفس الوقت تقريباً. ويستمدون مكانتهم من العدد "الكبير من رجال الدين" الذين ينتمون الى صفوفهم. وهم يعملون كشيوخ وكممارسين طبيين للقبائل الأخرى كذلك . وقد جعلتهم إرتباطاتهم الدينية أكثر إكتفاء ذاتياً من الناحية المالية من القبائل الأخرى التى ترتبط بالإقتصاد الرعوى التقليدى. وقد أصبح بعضهم تجاراً، ولكنهم لم ينخرطوا فى التطورات الجديدة بقدر القايداب. فهم محافظون مثل الويلألياب، رغم أنه ليس هناك تفاوت كبير بين من يملكون ومن لا يملكون داخل القبيلة . ويعود هذا جزئياً الى مهنتهم الدينية التى تحثهم على إشراك أقاربهم الأقل ثراء. لقبيلة الويلألياب وضع مختلف. فقوتهم العددية مساوية تقريباً القايداب والسمارنداب. ولهم قطبا إقامة، واحد قريب من سنكات فى جبال البحر الأحمر والآخر فى الحدود الغربية لدلتا القاش، حيث كانوا كثيرى العدد مثل القايداب. وقد حاز الويلألياب لحوالى مائتى سنة إمتياز نظارة الهدندوة. وقد جعلهم هذا الإمتياز يصبحون محافظين. فهم ليسوا حضريين مثل القايداب، ولا متعلمين مثلهم. والعديدون منهم ما يزالون يتمسكون بالإقتصاد الرعوى التقليدى وهناك القليل من التجار، فهم فى الغالب مستثمرين لثروة تلقوها من إمتيازات الأسلاف التى منحها البريطانيون لهؤلاء الأسلاف وهناك تفاوت كبير فى الثروة بين العائلات التى تنتمى للقبيلة. إذ تحوى كل ألوان الطيف من الأكثر غنى الى الأشد فقراً، والأخيرون هم الأكثر عدداً. ويستفيد أفرادها الأكثر ثراء من المكانة التى إكتسبوها من تعاقب نظار الويلألياب لزمن طويل، مما جعل أفرادها شركاء مرغوبين فى معظم التبادلات الإجتماعية–الإقتصادية. ويبدو أن القبيلة قد فقدت زمام المبادرة وأنها الآن تمر بمرحلة ثبات.

من يتحمل أوزار «تجارة الرقيق» في السودان: صام الشماليون عن ذكرها فاشتعلت الحرب في الجنوب

د. منصور خالد

من الظلم تحميل كل الشماليين ذنبا ارتكبه بعض أسلافهم ولكن هذا لا يعفيهم من المسؤولية الأدبية • الاستعمار لعب دورا في تعميق الأزمة بين الشمال والجنوب لكنه لا يتحمل حصريا المسؤولية، لولا مراوغة حكام الشمال في تناول قضية الرق لانتهت «القضية» منذ زمان كما انتهت في مناطق أخرى أسهم بعض السياسيين الجنوبيين في إخراج موضوع الرق عن سياقه التاريخي حتى أصبح ذريعة افتتان.
ظلت مشكلة «تجارة الرق» احدى اهم النقاط الساخنة في تاريخ السودان القريب وقد صام كثير من الشماليين عن الخوض فيها اما تحرجا او لا مبالاة، مما أدى الى اشتعال الحرب الأهلية في الجنوب. لكن الدكتور منصور خالد وزير الخارجية السوداني في عهد الرئيس الاسبق جعفر نميري فتح الباب على مصراعيه لبحث هذه القضية التي تسببت في صدمة نفسية دائمة للجنوبيين قادت بدورها الى ردود فعل غير معافاة وحروب. ويقول في كتابه الجديد «السودان: أهوال الحرب وطموحات السلام ـ قصة بلدين» الذي يروي قصة الخمسين عاماً الأخيرة في السودان، ان المستعمر البريطاني لعب دورا كبيرا في استرجاع اسوأ الذكريات المتعلقة بتجارة الرقيق بهدف تعبئة الجنوبيين ضد الشماليين لذلك أخذ الجنوبيون ـ وما زال بعضهم مثابرا على ذلك حتى اللحظة ـ يحملون اهل الشمال كله المسؤولية عن خطأ ارتكبه اسلافهم. ويوضح ان «الادانة لشعب بأكمله على اخطاء ارتكبها نفر من اهله في الماضي تتسم بالظلم ويفتقد الحكمة». ورغم اعتراف الدكتور منصور خالد الذي يشغل حاليا مستشارا لزعيم الحركة الشعبية لتحرير السودان جون قرنق بالقضية الا انه اشار الى ان تناوله لها يؤلمه كما سيؤلم القارئ، الا انه لام حكام السودان بعد الاستقلال ونخبة من المفكرين فيه، لابتعادهم عن هذه القضية او «مراوغتهم» في تناولهم آثارها على السياسات المعاصرة. وقال «لولا تلك المراوغة لانتهى الحديث حول الرق منذ زمان كما انتهى في بلاد اخرى، ولكان في نهايته شفاء للامة من جراحها المثخنة». ما فتئ جزء هام من نخب الشمال في السودان ينظر لأهل الجنوب وكأنهم بفطرتهم، أدنى مرتبة من الشماليين. هذا التصنيف وتداعياته الرمزية طال حتى مواقع العمل التي يفترض ان يحتلها المرء بحكم تأهيله العلمي وقدراته الفكرية، لا أصله العرقي. مرد ذلك التقسيم الزري هو الصور الذهنية للسيد والعبد التي تركتها ثقافة الرق في المخيال الجمعي الشمالي، والتي أسفرت عن صدمة نفسية (trauma) دائمة بين الجنوبيين، قادت، بدورها، الى ردود فعل غير معافاة: هذه هي الحقائق التي أوصدنا عنها في الشمال عقلنا بمغلاق متين، إما تحرجاً أو لا مبالاة. ولولا ان حكام السودان بعد الاستقلال ونخبه المفكرة ذهبوا الى المراوغة في إقبالهم على تناول الآثار الحقيقية والمفتعلة لتلك الظاهرة على السياسات المعاصرة، لانتهى الحديث حول الرق منذ زمان، كما انتهى في بلاد أخرى، ولكان في نهايته شفاء للأمة من جراحها المثخنة. بسبب من تلك المراوغة، استحال محو الصور الاستزرائية التي شحنتها ثقافة العبودية في الأذهان. لم يدر بخلد القيادات والنخب ان واحدا من اهم دواعي الاحتقان في نفوس الجنوبيين وغيرهم من المهمشين مثل النوبة والفور وقبائل الأنقسنا، هو استدامة تلك الصور في العقل الجمعي الشمالي. على النقيض، سعت القيادات بدأب ملموس لمسخ الوقائع التاريخية بهدف انكار صلة العبودية بالأزمة الحالية في السودان. هذا ايضا كان هو موقف أغلب مؤرخي الشمال، كشطوا تلك الصفحة من التاريخ فانكشط للناس سرهم. هذا منهج معيب لأن الأمر تجاوز الاستخفاف بظاهرة اجتماعية تركت وراءها أثراً بارزاً، الى تزييف وقائع التاريخ. والتاريخ، كما نعرف، ليس جوهراً صافياً، اذ فيه الزكى الطيب، وفيه الفاسد العطن. صحيح ان التاريخ ليس بريئاً من كل عيب لأنه لا يعبر الا عن رؤية كاتبيه، وكما يقول المؤرخ المعرف إ.هـ. كار (E.H.Carr) ليس للتاريخ وجود مستقل عن الذين يترجمونه (history has no free-standing from those who interpret it)، ولكن هذا لا يبيح طمس الوقائع. فالمؤرخ الذي يزيف الوقائع، بطمسها أو تغييبها، يخدش ضمير التاريخ نفسه. وكثيراً ما يكون تغييب الحقائق ناجماً عن تحيز منهجي أو معرفي يدفع المؤرخ لانتقاء الوقائع التي تثبت موقفه المنحاز، واستثناء تلك التي تتعارض مع ذلك الموقف. هذه مناسبة لأن نشيد فيها ـ مرة أخرى بجهد ـ الاستاذ محمد ابراهيم نقد في إجلاء الحقائق عن ظاهرة الرق في فترة المهدية، كما نشيد بالجهود المتواترة للدكتور أحمد العوض سيكيانقا حول الرق في السودان بصفة عامة. تلك قضية لا يملك المؤرخ الرصين إغفالها أو بترها، وان فعل فلن يكون في تاريخه مقنع للباحثين عن الحقائق المجردة، لأن المعرفة البتراء تحيد بالمرء عن الصواب. لهذا السبب أولينا تاريخ العبودية في السودان جزءاً هاماً من هذا الكتاب عبر كل الحقب، حتى وان كان في ذلك هز للصور المعرفية السائدة في العقل الشمالي والعقل الجنوبي. ففي الحالة الاولى اسهم المؤرخون الشماليون بإغفالهم لتلك الظاهرة، إسهاماً كبيراً في ترسيخ الصور السائدة. وفي الحالة الثانية لعب بعض السياسيين الجنوبيين دوراً كبيراً في إخراج موضوع الرق عن سياقه التاريخي حتى اصبح ذريعة افتتان. مواقف حكومات الشمال حيال الجنوب لم تكن لتسهل دون تعاون طائفة من الساسة الجنوبيين الرحّل (nomads) الذين واظبوا على التنقل من حزب شمالي الى آخر، ومن حكومة شمالية الى اخرى ببراعة مذهلة. تلك الطغمة من الانتهازيين لم تبال بأن يكون لها موقع في كل حكومات الشمال حتى تلك، مثل نظام الجبهة، التي لا يتوقع عاقل ان يكون لجنوبي غير مسلم مكان فيها بحكم توجهها الديني الانغلاقي، وسياساتها الجهادية نحو الجنوب، وازدرائها للديانات الأخرى. رغم كل هذا، وجد طريقه الى ذلك النظام، المحارب الجنوبي القديم، والقس الذي لا يحتشم، دعك عن انتهازيين من الدرجة الثالثة ما فتئوا منذ الستينات يتدافعون على موائد لا يستمرئ طعامها الا بصباص (متملق) لئيم. دور المستعمر لعب المستعمرون ـ بلا جدال ـ دورا كبيرا في استرجاع اسوأ الذكريات المتعلقة بتجارة الرقيق بهدف تعبئة الجنوبيين ضد الشمال كله. نتيجة لذلك، اخذ الجنوبيون ـ وما زال بعضهم مثابراً على ذلك حتى اللحظة ـ يحملون اهل الشمال كله المسؤولية عن خطأ ارتكبه اسلافهم. على ان الادانة لشعب بأكمله على اخطاء ارتكبها نفر من اهله في الماضي، أمر يتسم بالظلم ويفتقد الحكمة. هذه النظرة الموضوعية الباردة يجب ان لا تعفينا في الشمال من المسؤولية الادبية عن آثار ذلك التاريخ الشائن، فالشمال وحده هو الذي جنى ثمار الاسترقاق، كان ذلك في الدفاع عن نظام حكمه (الدولة المهدية)، او في بناء قاعدته الاقتصادية (الاقطاع الزراعي)، او في العناية بمرافقه الخدمية. ومع الاعتراف بتعميق الاستعمار لعوامل الانقسام الراهن بين الشمال والجنوب، فان تحميله ـ بصورة حصرية ـ المسؤولية عن كل مآسي السودان الراهنة لا يعدو ان يكون مزحة سخيفة. فمنذ الاستقلال توفرت لساسة الشمال فرص لمعالجة الاخطاء الموروثة من عهد الاستعمار، وضمد الجراح، والتوجه بالسودان في طريق البناء والرفاه في ظل تعايش متناغم بين ابنائه. ولكن استمرار الحرب نصف قرن من الزمان بعد خروج الاستعمار يظهر ان ثمة شيئاً متعفناً في مملكة الدنمارك (There is something rotten in the Kingdom of Denmark) هـذا العفن عجزت انوف الطبقة الحاكمة في الشمال عن شميم رائحته الساطعة. وعندما بدأ الجنوبيون يطالبون بمكانهم تحت الشمس، باعتبار ان ذلك حق مشروع لهم، لم ير اهل الحل والعقد في الخرطوم في تلك المطالب الا تعدياً على خصوصيات الشمال، بل وعلى حقه الموروث في ان يقرر بمفرده مصير القطر كله، بدلاً من اهتبال تلك الفرصة لإصلاح الأخطاء التاريخية. من تلك الخصوصيات الشمالية، كما قلنا، اعتبار رواد الحركة السياسية منذ ثلاثينيات القرن الماضي ان الثقافة الاسلامية العربية، المحدد الوحيد والمكون الاساس للهوية الوطنية السودانية. ولو جاء ذلك الطرح في بيئة اكثر معافاة من البيئة التي تسودها ثقافة الاسترقاق، وتطغى عليها النظرة الاستهجانية لغير العرب ـ بمن فيهم ابناء واحفاد الارقاء في شمال السودان والذين اصبحوا شماليين بكل ما تعني الكلمة من معنى ـ فلربما كان لرواد الحركة الوطنية ما أرادوا. ولكن في ظل الثقافة الشمالية الاستعلائية، والنظرة البطرقية الطاغية من جانب الشمال للجنوب، كان رد فعل اهل الجنوب هو الاستمساك بخصائصهم الثقافية ودياناتهم المحلية وعاداتهم الموروثة. لم يتحملوا الالم في صمت كما افترض السادة ظناً منهم ان العبد ينبغي ان لا يعصى لسيده أمراً. المهدية والرق وفي سرده لمراحل تجارة الرقيق في السودان، تحدث الكاتب عن الدولة المهدية (1889 ـ 1898)، وقال: في سبيل اقامة دولتها اباحت المهدية ايضاً سبي المسلمين المتنكرين لدعوتها بعد ان قررت ان انكار المهدية والكفر سواء. وفي التاريخ شواهد موجعة على اباحة سفك الدماء وبيع المسلم الحر في ذلك العهد. فمنشور المهدي فيما يتعلق بالاسترقاق كان واضحا: ان يسترق بحد السيف كل من لم يهده الله الى الاسلام من غير المسلمين او ينكر الاعتراف بالمهدي المنتظر، مسلما كان ام غير مسلم. وبهذا اتجهت المهدية بالجهاد وسبي الحرب اتجاها غير مألوف، بل مبتدع، اذ يحرم الاسلام سبي المسلم للمسلم. ويروي شقير ان محمود ود احمد قد بعث للخليفة بـ 234 جارية من المتمة يمثلن خمس السبي الذي سباه من فتيات الجعليين، مما حمل اخواتهن، حسب رواية شقير، على القاء انفسهن في النيل تفضيلاً للموت على حياة الفضيحة والعار. وكان سبي النساء والرجال بين القبائل المسلمة التي انكرت المهدية كالكبابيش والشكرية والجعليين اكبر عامل في تبغيض المهدية لقبائل الشمال حتى للحد الذي دفع بعضهم، كالشكرية مثلا، للتضرع الى النصارى لكي ينقذوهم من دولة الاسلام التي اذلت قومهم والحقت بهم الهونى. عن اولئك عبر شاعرهم الحردلو: أولاد ناس عزاز مثل الكلاب سوونا ـ يا يابا النقس، يا الانكليز الفونا. استقصى نعوم شقير (مؤرخ) ايضا تسري المهدي بثلاث وستين فتاة من بنات الاسر الشمالية، سُبين في الحرب. في حين لم يتسر الرسول رغم كل حروبه الا بأربع، اثنتان منهن من سبايا الحرب: ريحانة بنت يزيد من سبي بني النضير وقعت في سهم ثابت بن يزيد فكاتبها على تسع اواق لم يؤدها فأداها عنه الرسول وتزوجها، وجويرية بنت الحارث (من سبي بن المصطلق)، واثنتان أُهديتا اليه (ماريا) ام ولده ابراهيم اهداها المقوقس عظيم القبط، واخرى اهدتها له (زينب بنت جحش). وفي حقيقة الأمر اهدى المقوقس الى رسول الله جاريتين تأمى بواحدة منهما هي ماريا، واهدى الثانية (سيرين) الى شاعره حسان بن ثابت، وكانت تجيد الغناء ونقر الدف، ولعل رسول الله اختار لها من يتغنى بشعره. المهدية والجنوب ومع تمكنها من فرض هيمنتها الكاملة على الشمال، لم تنجح المهدية في تحقيق سيطرة تامة على الجنوب، اذ توقفت سيطرتها جنوباً عند مناطق في بحر الغزال وأعالي النيل. بعض هذه المناطق (مثل الرجاف) اصبحت حاميات يعزل فيها، او ينفى اليها المنشقون عن المهدية. وبوجه عام، فان اكثر ما يستذكره الجنوبيون من المهدية هو سعيها لفرض اسلام طهراني قاس عليهم، واطلاق العنان من جديد لتجارة الرقيق. تلك النظرة السلبية للمهدية لدى اهل الجنوب سبقها شهر عسل قصير بينهم وبين الدولة المهدية، لاسيما وقد توسموا فيها الخير، وحسبوا ان لهم فيها منجاة من عسف الأتراك. في شهر العسل ذلك، يقول فرانسيس دينق، نظم الجنوبيون الاماديح في المهدي، وعده الدينكا تجلياً لأحد آلهتهم هب لتحريرهم من نير الحكم التركي. وفي حواراته مع شيوخ الدين روى دينق ايضا قولاً للزعيم قيرديت جاء فيه: على الرغم من ان المهدي قد بدأ كمحرر للناس الا ان حكمه اصبح سيئا حيث اراد ان يستبعد الناس. أما الزعيم ماكوي بيلكوي فقد اشار الى معاناة الدينكا من الاتراك الذين اتوا مهاجمين وما ان استولوا على قبيلة حتى استعبدوها ثم استخدموها لغزو قبيلة اخرى. ويضيف ماكوي ان الدينكا تبعوا المهدي في البداية باعتباره قائدا عفيفا ومستقيما ولكنهم عندما اكتشفوا الطبيعة التدميرية لحكم المهدي قالوا له: لقد خذلت شعبنا. تحريم.. وتكريس لا شك في ان المهدية قد حرمت تجارة الرقيق التي كان يمارسها الجلابة ولكن، في حقيقة الامر، لم تفعل هذا بسبب الطبيعة اللاانسانية للرق، وانما خشية من انشاء تجار الرقيق جيوشاً خاصة بهم من العبيد (بازنقر) يتحدون بها الدولة، او ان يجد الرقيق طريقه لمصر فيستعين به الاتراك لاعادة فتح السودان. ذلك هو السبب الذي دفع الخليفة لمنع تصدير الرقيق لمصر، وتوجيهه لقائده في الشمال، ود النجومي باعتراض قوافل الرقيق المتجهة اليها. لهذا وجهت منشورات الخليفة باخضاع التداول في الرق لقواعد يضعها الحاكم، وعلى ان لا يتم التصرف فيه الا عبر بيت المال. بهذا الفهم، اصبح منع التجارة الخاصة في الرق، في حين الابقاء عليها تحت امرة الدولة، تأميما لتلك التجارة، لا إلغاء لها. اما موقف المهدي نفسه حيال التحريم فقد كان واضحاً لا لُبس فيه; ففي رسالة لمحمد خير عبد الله خوجلي في برير كتب المهدي معاتباً وكيله لتردده في اعادة الرقيق الذي حرره الاتراك الى مالكيهم «الشرعيين». وفي جنوب السودان لم يختلف الوضع كثيرا، اذ استعرت من جديد نيران الاسترقاق التي أطفأها غردون وبيكر. لم يكن ذلك امرا لا ينبغي ان يفاجئ احدا، خاصة والرجل الذي ولاه الخليفة على بحر الغزال كان هو تاجر الرقيق القديم، كرم الله كركساوي. وكان على رأس المهام التي انيطت بكرم الله تجنيد المشاة السابقين (الجهادية) في الجيش التركي للاستعانة بخبراتهم في جيش المهدي. سعت المهدية ايضا لتوسيع حملتها الى الاستوائية، والتي كان يديرها يومذاك حاكم الماني يدعى ادوارد شنيتزر اطلق عليه اسم امين باشا، رغما عن النصيحة الحكيمة التي قدمها للخليفة عمر صالح، قائد جيوش المهدية في تلك المنطقة، ودعاه فيها لايقاف الهجمات على قبائل الاستوائية لانهم بعاداتهم وتقاليدهم الموروثة لا يستسيغون الانموذج الديني الطهراني الذي فرضته المهدية. ولعل الخليفة ـ بجانب حرصه على اقتناص قدامى المحاربين الذين تمرسوا على الرماية والقتال في جيش صموئيل بيكر ـ كان يروم ايضا محو آخر اثر للترك في السودان: المديرية الاستوائية. وصدق حدس عمر صالح حول عدم استساغة الجنوبيين للطهرانية المهدوية، رغم كل ما منحته المهدية للرقيق العسكري من امتياز. فعلى سبيل المثال، تمرد فريق منهم بين عامي 1885 و 1887 في مدينة الابيض ضد الحكم المهدوي، وقاموا برفع العلم التركي تعبيرا عن عدم شعورهم بالرضا، كما انتقوا من بينهم قائدا اطلقوا عليه، بحماقة متناهية، لقب الباشا. تلك الثورة اخمد نارها بعنف حمدان ابو عنجة. في نهاية المطاف وجدت المهدية نفسها امام عقدة مزدوجة، ففي الشمال زادت سياسات النظام من اغتراب العلماء عنه، وحقد القبائل عليه. وفي الجنوب تحول الذين استقبلوا المهدية بالابتهاج في بداياتها الى اعداء بسبب عودة الاسترقاق وفرض نموذج ديني غريب عليهم. من ذلك نخلص الى ان المهدية تركت آثارا على الجنوب والشمال حافلة بالنقائض. فمن ناحية، خلقت في الشمال بؤرة من الكرامة الوطنية توحد حولها السودانيون رغم كل مآخذهم عليها، وفي ذات الوقت دمرت المهدية روح التسامح الديني والسياسي في الشمال الذي تميزت به الممالك الاسلامية السابقة مما خلق انقسامات قبلية حادة استغرقت ازالة آثارها سنين طوالا، وجهدا جهيدا من قادة المهدية الثانية. أما في الجنوب فقد قوضت سياسات الاسلمة القسرية المجتمعات القبلية، كما خلقت صورة للاسلام بغضت الجنوبيين فيه. فالدولة المهدية قبل ان يدمرها الاستعمار دمرت نفسها بسياساتها. ومن الغريب ان يورد كاتب اسلامي معاصر (عبد الوهاب الافندي) ان تدمير الدولة المهدية هو نتاج مباشر لتدخل القوى الاجنبية ورغبتها في تصفية المشروع المهدوي. هذا المشروع، في رأي الكاتب، اتجه الى ازالة الحواجز بين اقاليم السودان وقبائله واحلال السودان موقعا متميزا بين الامم، وكأن كل المغامرات الخارجية والعنف الداخلي، والاوهام الايديولوجية، والذهول الكامل عن القضايا الحياتية لاهل السودان، لا يد لها في ذلك الفشل، او كأنها امور يخلق بالسودانيين نسيانها مادامت الدولة قد نسبت نفسها للاسلام. هذا النوع من التبرير هو الذي يفقد كل دعاوى الاسلامويين اية صدقية، ويفضح تكاذيبهم عن السماحة في اسلامهم. فالعنف الذي مورس ضد القبائل التي رفضت المهدية لا يمكن ان يكون هو الاسلوب الذي توحد به الامم، والاعتداءات على الدول المجاورة والتحرش بالدول النائية ليسا هما السبيل الامثل لان يكون للسودان اسم ومكان على النطاق الخارجي. فطوال ستة عشر عاما من الحكم كانت الوظيفة الوحيدة للحاكم هي شن الحروب الداخلية لقمع الآخرين، وتعبئة الموارد المحدودة لنشر الاسلام المهدوي في العالمين، وتحريض القبائل على بعضها البعض حتى فقد شعب السودان نصف اهله بنهاية الحقبة المهدية (من 8 الى 3.5 مليون نسمة).

الاثنين، 6 يونيو 2011

الشريعة الإسلامية فى السودان.. جدال ليس له نهاية

تعتبر قضية الشريعة الإسلامية وتطبيق القوانين والأحكام المتعلقة بها من القضايا الشائكة فى واقع الدولة السودانية حيث كان ولايزال موضوع الشريعة من المواضيع التى يثير طرحها الكثير من الجدل، لاسيما أن السودان يعتبر من البلدان القليلة على مستوى العالم التى تتميز بتنوع عرقى وإثنى وثقافى كبير وعلى الرغم من أن أغلبية سكان السودان من المسلمين مع وجود مجموعات أخرى غير مسلمة وتنتمى لديانات عديدة منها المسيحية وعدد من الديانات الافريقية الأخرى، إلا انه يلاحظ أن موقف الاغلبية المسلمة غير موحد تجاه قضية تطبيق الشريعة وكل من المؤيدين والمعارضين لهم مبرراتهم فى ذلك، فحينما نال السودان إستقلاله عن بريطانيا فى العام 1956م لم تكن قضية الشريعة من القضايا الملحة فى تلك الفترة حيث أن نظام الحكم الديمقراطى كان هو القضية التى تشغل بال الساسة فى السودان ولم تكن هنالك قوى سياسية ترى غضاضة فى إستمرار الحكم بالدستور العلمانى الذى تم إقراره حينئذ داخل الجمعية التأسيسية (مجلس النواب) وأستمر الحال كما هو عليه حتى بدأ تيار الإخوان المسلمون فى التنامى بالإضافة إلى بعض المجموعات الإسلامية الأخرى وطالبوا فى ستينيات القرن الماضى بضرورة صياغة دستور إسلامى لحكم السودان، ولأن تلك القوى لم تكن تشكل أغلبية داخل البرلمان السودان لم يستطيعوا أن يجدوا القبول لدعوتهم تلك حتى إنقلب مجموعة من ضباط الجيش على السلطة بقيادة العقيد جعفر نميرى ليغلق باب الحديث عن الدستور الإسلامى الذى لم يكن أحد القضايا التى طرحها العسكر.
قوانين الشريعة الإسلامية واقعاً لأول مرة
أستمر الحال على ماهو عليه حتى العام 1983م حيث كان نظام النميرى قد عقد مصالحة مع قادة الأحزاب السياسية تم السماح لهم بموجبها بممارسة العمل السياسى فى إطار السلطة الحاكمة وقد إستغل الإخوان المسلمون تلك الفرصة التى اتيحت لهم للدخول إلى السلطة وإقناع النميرى الذى كان يعانى نظامه من ازمات إقتصادية وسياسية كبيرة إستطاعوا إقناعه بضرورة تطبيق قوانين الشريعة الإسلامية وتنصيبه أميراً للمؤمنين وبالفعل إستمع النميرى لنصيحة الأخوان المسلمون وقام بإقرار القوانين الإسلامية، لكنه لم يمكث أكثر من عامين فى السلطة حيث أطاحت به إنتفاضة شعبية فى العام 1985م ، لتعود الحياة الديمقراطية من جديد ويتراجع الحديث عن الشريعة الإسلامية وتطبيقها فى البلاد، بل وإعتبرها البعض أحد العوامل التى فاقمت الحرب التى إشتدت ضراوتها فى جنوب البلاد ذى الأغلبية غير المسلمة، ولم يستمر النظام الديمقراطى لاكثر من اربع سنوات حتى قام الإخوان المسلمون بإنقلاب عسكرى عبر بعض الضباط المنتسبين إليهم داخل القوات المسلحة وأستلم السلطة فى البلاد العميد عمر البشير الذى تحدث عن أن الشريعة الإسلامية هى إحدى الثوابت التى لن يتم التنازل عنها.

الشريعة سبباً فى تفاقم حرب الجنوب
نظام البشير لم يهدأ له بال بسبب إشتداد ضراوة الحرب فى جنوب السودان التى أعطتها مسالة تطيبق الشريعة بعداً آخر حيث إعتبر البشير المجموعات المسلحة التى كانت تقاتل الحكومة المركزية إعتبرهم كفاراً وخوارج يجب قتالهم الأمر الذى دفعهم لرفع سقف مطالبهم من الحكم الذاتى فى إطار السودان الواحد إلى الى المطالبة بحق تقرير المصير لشعب الجنوب ذى الاغلبية غير المسلمة ، وامام الضغوط الدولية والداخلية التى تعرض لها نظام البشير قام فى عام 2005 م بتوقيع إتفاقية مع الحركة الشعبية لتحرير السودان الفصيل الأكبر الذى كان يقاتل فى الجنوب وقد نصت تلك الإتفاقية على إقامة نظام تشريع مزدوج فى السودان يعمل على تطبيق الشريعة فى الشمال والعمل بالقوانين العلمانية فى الجنوب وإعطاء شعب جنوب السودان حق تقرير المصير فى العام 2011 م .

الشريعة بعد إنفصال الجنوب
الآن وبعد ان إختار مواطنى جنوب السودان الإنفصال وإقامة دولة أخرى فى الجنوب عاد الحديث عن الشريعة الإسلامية للسطح مرة اخرى حيث يرى البشير ومجموعة من القوى السياسية فى الشمال ضرورة الإعلان عن التطبيق الشامل لقوانين الشريعة الإسلامية فيما ترى مجموعة من القوى السياسية الأخرى أن تطبيق الشريعة الإسلامية لايمكن أن يقرها نظام البشير بل الشعب السودانى هو من يحدد ذلك عبر حكومة وبرلمان منتخب بصورة شرعية. حيث وصف محمد حسين شرف، المتحدث باسم حركة العدل والمساواة فى القاهرة الحديث عن الشريعة بأنه مستفز لكل التعدد العرقى والدينى والإثنى والثقافى فى السودان، ويعبر عن الاضطراب الذى يعيشه النظام السودانى ورئيسه وهما المسئولان عن فصل جنوب السودان وعن الحالة الاقتصادية المتردية والغلاء الفاحش الذى يعانى منه المواطن السودانى اليوم. فيما يرى الطيب مصطفى زعيم منبر السلام العادل أن حديث البشير عن الشريعة قد أكد ما ظلوا يقولونه وهو أن الجنوب كان خصماً على هوية الشمال منذ أن ورطنا الانجليز في هذه الوحدة اللعينة على حد تعبيره. أما التشاكس بين الشمال والجنوب حول هوية السودان كان هو أس مشكلة الجنوب وهو كزواج القط من الفأر والليل بالنهار والشحمة مع النار.. والتنازع حول الهوية حسب قوله كان سبباً أساسياً للحرب مع الجنوب طيلة العقود الماضية وهو سبب التشاكس بين الشريكين خاصة وأن الحركة الشعبية قد تبنت مشروعاً علمانياً وظلت تدعو له من خلال مشروع ما يسمى بالسودان الجديد والآن والحديث لزعيم منبر السلام العادل عندما يذهب الله عنا الأذى بمغادرة الجنوب فإن الصراع حوله يكون قد انتهى تماماً وتحددت وجهة الشمال وانتهى التنازع ولذلك لن يكون هناك أي عائق امام استكمال واحتكام الشمال إلى دينه والاتجاه نحو بوصلته الحقيقية .

قادة الحركة الإسلامية لهم رأى مختلف
لكن هنالك موقف آخر عبر عنه كمال حسن عمر القيادى بحزب المؤتمر الشعبى الذى يتزعمه حسن الترابى الأب الروحى للحركة الإسلامية فى السودان والذى خطط لإنقلاب البشير عام 1989 م قبل أن يقوم الأخير بإيداعه السجن عام 1999 م بعد أن إختلف معه ليخرج ويؤسس حزب المؤتمر الشعبى حيث يؤكد الأستاذ كمال عمر القيادي البارز بالحزب على ان الرئيس ليس من سلطته إعلان الشريعة لأن الدستور هو عبارة عن إرادة الشعب وهي لا تصاغ عبر المنتديات العامة وإنما عبر واقع تأتي به الانتخابات الشفافة والنزيهة وقبلها يكون فيها إصلاح كامل لكل مؤسسات الدولة والحريات تم تأتي الشريعة والرئيس يمثل السلطة التنفيذية ويلتزم برغبة المجلس التشريعي. وأيضاً هنالك قوى محسوبة على اليمين لها رأى مختلف حول قضية الشريعة مثل الدكتور يوسف الكودة رئيس حزب الوسط الإسلامي الذى قال أنهم كحزب لديهم تحفظات على قضية الشريعة لأنهم كانوا يظنون أن نظام البشير بعد الانفصال سيحرص كل الحرص على قضية الوحدة الوطنية وبالطبع لم يكن الرئيس موفقاً في حديثه عن تطبيق الشريعة باعتبار ان دستور البلاد لا تحدده جهة واحدة أو حزب حاكم بل يحدده أهل السودان الممثلون في أحزاب شتى
.

الاثنين، 17 يناير 2011

لاتعديل .. بل إلغاء

عبدالهادى الحاج

ينص دستور السودان الانتقالي لعام 2005 فى المادة 27/3 على أن كل الحقوق والحريات المضمنة في الاتفاقيات والعهود والمواثيق الدولية لحقوق الإنسان والمصادق عليها من قبل جمهورية السودان جزءً لا يتجزأ من هذه الوثيقة. كما ينص فى المادة 5/2 (مصادر التشريع) على أن يكون التوافق الشعبي وقيم وأعراف الشعب السوداني وتقاليده ومعتقداته الدينية التي تأخذ في الاعتبار التنوع في السودان، مصدراً للتشريعات التي تُسن على المستوي القومي، وتُطبق على جنوب السودان أو ولاياته. لن تكون تلك المشاهد التى عرضها الفيديو المنشور على الشبكة الدولية والذىٍ بثته معظم وسائل الإعلام العالمية عن الفتاة السودانية (الحرة) التى نكل بها قانون النظام العام هى المشاهد الأخيرة كما لم تكن بالطبع هى الأولى فمثل هذه المشاهد هى النتاج الطبيعى لإفرازت قانون النظام العام، ويجدر بنا أن نقول وبكل شجاعة أن تلك المشاهد التى تكشف بجلاء ووضوح ماتتعرض له الكرامة الإنسانية فى السودان من مهانة وإذلال جراء تطبيق هذا القانون الذى لاتجد للكرامة أوالإنسانيه بين طياته موضعاً، هذا القانون الذى تم سنه فى مرحلة تاريخية كانت الراية (الإنقاذية الطالبانية) هى التى تتسيد الموقف فشد من أزره طائفة من أولئك الذين عمى بصيرتهم الهوس الدينى وإبتلاهم الله بخواء القلوب والنفوس، فجاء كأقبح وافظع ماعرفته الأمة السودانية عبر تاريخها من قوانين، وجاءت مواده الواحدة تلو الأخرى تضع الشعب السودانى من أقصى شماله لأقصى جنوبه ومن أقصى شرقه لأقصى غربه فى دائرة الإدانة والإتهام. وعلينا أن نعلم أننا كامة سودانية لسنا أحراراً كما ندعى ولن نكون أحراراً طالما ظل سيف هذا القانون مسلطاً على رقابنا ومديناً لثقافانتا ومنكلاً بأعرافنا ومنتهكاً لحرمانتا ورقيباً على ضمائرنا التى قبرناها بأيدينا حينما إعترانا الصمت لنترتضى بالمذلة بديلاً لعزة النفس، وحينما قبلنا أن ينهض غيرنا ليعلمنا مكارم الأخلاق ويحاسبنا على مايخدش حياؤنا ويستبيح حريتنا التى لاتتناسب وذوقه، وإلا فما معنى أن يصدر قانوناً خاصاً بـ(التننانير القصيرة) و(الرقص المختلط) بل وضوابط الحفلات العامة، التى يعتقد المشرع أنها أكبر جرماً من السرقة والقتل التى تحكمها مواد القانون الجنائى الذى هو بحاجة أيضاً إلى الكثير من الإصلاح. إن المبررات التى يسوغها البعض ليظل ذلك القانون جاسماً على صدورنا لاتعدوا أكثر من محاولة يائسة لذر الرماد فى العيون ومواصلة دفن الرؤوس فى الرمال وغض الطرف عن ما يحمله القانون من تعارض سافر مع مواد دستور البلاد الذى يمثل القانون الاعلى للدولة والذى ينص وبكل وضوح على أن السودان بلد متعدد الثقافات والأعراق وعلى الدولة ان تعمل على الإهتمام بهذه الثقافات وتطويرها وليس التنكيل بها ووضعها موضع الجرم كما ينص بذلك قانون النظام العام الذى يذهب فى إحدى مواده إلى أن الرقص المختلط الذى هو جزء من ثقافة جميع القبائل السودانية جريمة يجب ان يعاقب مرتكبها، فبينما يعطينا دستور البلاد الحق فى تطوير ثقافنتا وتنميتها، هاهو قانون النظام العام يستهين بها ويحط من قدرها دون أى مراعاة لهذا التعدد والتنوع الثقافى. بل والأدهى والامر أن هذا القانون يعتبر قانونا ًجنائياً من خلال صياغته القانونية مع العلم بأن التشريعات الجنائية تعد من أخطر أنواع التشريعات التى يجب خلالها مراعاة الدقة الدستورية والتشريعية لتأتى متسقة مع الدستور القومى. جاء هذا القانون فضفاضاً فى تعريفاته مثل تناوله للزى الفاضح الذى وصفه بأنه الزى الذي يخل بالآداب ويسبب مضايقة للشعور العام، تاركاً بذلك الباب مفتوحاً على مصراعيه لرجل الشرطة ليحدد ما إذا كان هذا الزى مخلاً بالآداب ومضايقاً للشعور العام أم لا !! وذلك بحسب القانون يعنى إعطاؤه سلطة القبض والإيداع فى الحراسة لمدة 24 ساعة قبل أن يتم عرضه على سلطات النيابة، ويمكن بعد ذلك وبكل بساطة أن يصبح الشخص المقبوض عليه غير مذنب وبالطبع فإن ذلك بعد أن يتم إقتياد الشخص المدان أمام مرأى ومسمع الجميع إلى (بوكس) النظام العام الذى بمجرد ذكر إسمه ترتعد الفرائض وتشمئز النفوس، مع الوضع فى الإعتبار بأن أغلب بلاغات اللبس الفاضح تتعلق بالنساء والفتيات اللائى يخرجن من بيوت اهلهن وهن يرتدين ذلك الزى الذى يتم ضبطهن بموجبه، فحتى وإن تمت تبرئتهن عبر المحكمة حتماً لن يسلمن من الأثر النفسى الذى يترتب عليهن جراء القبض عليهن وأخذهن على متن (بوكس النظام العام) ووصمة العار التى سوف تلاحقهن وتلاحق أسرهن كنتاج للسلطة التقديرية التى يخولها القانون لرجل الشرطة. أما حال المحاكمة والإدانة فإن السلطة المخولة للقاضى لإتخاذ العقوبة المناسبة أيضاً لاتخرج من إطار تقديره الشخصى أو بما يتفق مع مايراه مناسباً حسب معتقده ونمط سلوكه وطرق تربيته، هذا ما يدعونا لان نصرخ بالصوت العالى ونقول بإن هذا القانون فى مجمله يتنافى مع أبسط القواعد القانونية، وإن إلغاؤه يجب أن يصبح مطلباً شعبياً لاتراجع عنه ليس لعيوبه البنيوية وحسب إنما أيضاً حفاظاً على حرماتنا وكرامتنا وإنسانيتنا التى هى فوق كل مقام. هذا الحديث ليس من باب التضخيم أو المزايدة إنما هى نصوص ماثلة بين طيات ذلك القانون المعيب فى حقنا كأمة محافظة لها عاداتها وتقاليدها التى تعتز بها وتتمسك بها فلك أن تتخيل أن بقاؤك فى منزل خالك أوعمك مع إحدى بناته فى غيابه يعتبر (خلوة غير شرعية) طالما كانت هى من المحارم، وإنك بذلك يمكن أن تدان وتتم محاكمتك بموجب نصوص قانون النظام العام.. فأى درك سحيق هذا الذى يلقينا فيه مناصروا هذا القانون؟؟ وأى إنحطاط هذا الذى يضرب بمروءتنا عرض الحائط؟؟ وأى ردة هذه التى تلقى بنا فى غياهب العصور المظلمة؟؟. ونحن من كان يتفاخر شاعرنا ود الفراش ويقول (أنا الدابي إن رصد للزول يعيقو ** وأنا المأمون على بنوت فريقو) ولك أن تحمد الله ياود الفراش على أنك لم تشهد هذا العهد الذى لم تعد فيه ماموناً على (بنوت خالك) ناهيك أن تكون ماموناً على (بنوت فريقك). إن صياغة قانون لضبط السلوك المجتمعى دون مشاركة شرائح المجتمع المختلفة ودون إستشارة القانونيين ومنظمات المجتمع المدنى فى مناقشته، يكشف عن العقلية الإقصائية التى تسعى وراء إنفاذه وتطبيقه لضعف يتملك بنيتها السلوكية والأخلاقية لان قانوناً كهذا ينبغى أن يكون الجميع فيه شركاء فالقييم الاخلاقية هى سلوكيات يتبناها ويحرسها المجتمع ككل وليس عصبة من عديمى الأفق وسكارى السلطة، فخرجت تلك النصوص المعيبة وليداً شرعياً لتلك العقلية، لذا لم يكن مستغرباً أن تتم إجازة القانون وتطبيقه رغماً عن أنف الدستور الإنتقالى ورغماً عن أنف المواثيق الدولية لحقوق الإنسانية ورغماً عن أنف الحرائر اللائى تظاهرن ضد القانون، حينما تمت إدانة ومحاكمة الزميلة لبنى أحمد حسين بتهمة إرتداء الزى الفاضح، وحينما خرجن لتسليم مذكرة لوزارة العدل تطالب بإلغاء القانون، وفوق كل ذلك رغماً عن أنف اعراف وتقاليد الشعب السودانى التى لاتحتاج شرطى لحراستها. إن قضية فتاة الفيديو الذى تم نشره على مواقع الإنترنت ليست هى القضية الأساسية التى ينبغى أن يثور عليها الناس إنما مثلت نفاج صغير جداً كشف للجميع ما تتعرض لها فتياتنا جراء تطبيق ذلك القانون وما خفى حتماً أعظم بكثير من ما إلتقطته عدسة ذلك الهاتف، لذا لن يجدى نفعاً حديث البعض عن طريق الجلد وعن مافعلته تلك الفتاة حتى تستحق ذلك التنكيل ليذهب بنا البعض بعيداً عن صلب الموضوع بالإيدعاء بأن لديها سوابق وأنها .. وأنها، والكثير من الحديث الذى فشل مناصروا القانون من إدعائه حينما تم القبض على الزميلة لبنى أحمد حسين بتهمة إرتداء الزى الفاضح، وما أنقذ لبنى من تلك الإدعاءات هو أنها شخصية معروفة للجميع وبالتالى يصعب تلفيق مثل تلك التهم إليها، وهو ماحدث لتلك الفتاة التى لم تكن شخصية معروفة بل حتى أن ملامح وجهها لم تكن بالوضوح الذى يكفى للتعرف على شخصيتها، لذا فإن الحديث عن تلك الحوادث التى كان الجميع شاهداً عليها ينبغى أن لايأخذنا عن بيت القصيد وهو المطالبة الشعبية بضرورة إلغاء القانون ودعم المبادرات التى تصب فى هذا الإتجاه وعلى رأسها مبادرة (لا لإضهاد النساء). إن المجتع الفاضل المتحلى بالأخلاق تشكل بنيته الأساسية منظومة من القيم التى لاتنفصل عن بعضها، ليس بإصدار قانون (للتنانير القصيرة) فالذى يستبيح المال العام ويظل حراً طليقاً بيننا دون تقديمه لمحاكمة يبقى أشد خطراً على المجتمع من تلك الفتاة التى ترتدى تنورة قصيرة، والحاكم الذى يستبد ويطغى على شعبه ويتمادى فى طغيانه أشد خطراً على المجتمع من شارب الخمر، وذلك الذى يجعل البلاد ضيعة خاصة به يفعل بها وبمن فيها مايحلو له أشد خطراً على المجتمع من الزانى، فجميع تلك الجرائم تندرج تحت منظومة الأخلاق فلايمكن أن يستقيم الظل والعود أعوج.