السبت، 10 ديسمبر 2011

اللص و (البرلوم)

عبدالهادى الحاج

الساعة تعلن تمام الحادية عشر مساء موعد حصاد اليوم الإخبارى على قناة الجزيرة .. والخبر الثانى بعد حمامات الدم السورية وقرارات الجامعة العربية كان عن السودان .. الجزيرة عادة لاتعطى الخبر موقعاً متصدراً إلا إذا كان هنالك مايوازيه من الأهمية فى فحوى الخبر ..فالحدث حسب ماحمله عنوان الخبر كان هو تكوين الجبهة الثورية السودانية التى نصبت هدفها الأول والاوحد الإطاحة بحكومة البشير .. عنوان الخبر كان محفزاً للتسمر أمام الشاشة وإنتظار التفاصيل التى قد تكشف المزيد عن مايحمله التحالف الوليد من رؤى وإستراتيجيات ربما تجود بالخلاص لاهل السودان .. الإستماع للخبر الأول ذى الصلة بسوريا كان مملاًًً .. فمشاهد قتل المدنيين وسفك الدماء وقصف المدن باتت امراً طبيعياً نشاهده كل يوم بل على رأس كل ساعة ونحن نحتسى كوباً من الشاى الدافئ أونشعل سيجارة ننفُس فيها شيئاً من غضبنا المستتر والمعلن ..وأخيراًَ مذيعة النشرة تطلعنا على ان الحركة الشعبية (شمال) وحركة العدل والمساواة وحركة تحرير السودان جناحى (عبدالواحد ومناوى) قد اعلنوا جميعاً عن ميلاد جبهة سوف تسقط حكومة البشير وان الأخيرة قد اشارت بأصابع إتهامها لدولة الجنوب حديثة الولادة أيضاً.. لكنها حتماً قد ولدت بأسنانها طالما أن سقف طموحاتها قد وصل حد التفكير فى العمل على خلاص بقية أقاليم السودان المهمشة من نظام البشير كما فعلت هى وهى لم تحتفل بأولى ذكرى لإستقالالها بعد.. ليأتى تأكيد وزير إعلام البشير كمال عبيد (صاحب الحقنة الأشهر فى تاريخ السودان) مؤكداً أن حكومته سوف ترد على حكومة الجنوب فى الوقت المناسب والمكان المناسب بالكيفية المناسبة..
لم يكد التقرير الإخبارى يصل نهاياته حتى اعلن المذيع الذى كان يناصف زميلته إذاعة النشرة انهم يحدثون من الخرطوم قطبى المهدى القيادى الكبير فى حكومة البشير وحزبه .. بدا قطبى شاحب الوجه كسير العين خفيض الصوت تبدو عليه علامات الحياء.. مالبث بعدها يكيل التهم جزافاً لدولة الجنوب ويكشف علاقتها بالجيش الشعبى (شمال) وكيف أن قادته كانوا ولايزالون (كومندرات) فى الجيش الشعبى (الأب) وأن هنالك مؤامرة أكبر من الجيش والحركة الشعبية والدولة الوليد ذات الأسنان .. تحاك ضد نظام حكمه وضد البلد التى يضعها فى مخيلته و...و... و...المشهد بات مبعثاً للضحك الهستيرى .. هل هذا هو قطبى الذى فتح بلاغاً بأحد اقسام الشرطة قبل أقل شهر يتهم فيه مجهولين بالسطو على منزله ليلاً وسرقة آلاف الدولارات ومثلها من العملة الأوربية والريالات والليرات والدنانير والدراهم والجنيهات غير السودانية طبعاً .. كل ذلك والبلاد تعانى أزمة إقتصادية وأزمة فى النقد الأجنبى لم تشهد مثلها فى قريب الأيام وبعيدها .. كل ذلك ووزير مالية حكومة بشيره يطالب الشعب السودانى بالتقشف وربط الأحزمةً (والعودة للكسرة وأم رقيقة).. بل وأن بشيره نفسه يعلن أنه سوف يعمل على محاربة الفساد المحدود على حسب مايتصور ويعتقد أن الشعب السودانى يتصور مايتصوره.. ثمة تساؤل يلح على طرح نفسه ترى من هو اللص الحقيقى ؟؟ هل هو ذلك الذى إستباح منزل قطبى المهدى وأختلس ماحوى من أموال أجنبية فى جوف الليل ؟؟ أم هو ذلك الذى إستباح وطناً بأمياله المليون قبل ان يفتته إلى آلاف الكيلومترات ليختلس من خزائن أمواله بقدر ما أوتى من جبروت فى وضح النهار؟؟..
عادت مذيعة قناة الجزيرة مرة أخرى لكن هذه المرة لتقول أنها تحدث آخر من باريس عرفته بأنه نائب رئيس حركة العدل والمساواة الدارفورية المقاتلة وإحدى أطراف التحالف الوليد..تعريف الضيف القادم يبعث شيئاً من التفاؤل بان الحديث سوف يعود لفلكه المنطقى .. لكن هيهات فالضيف ينبهر بالكاميرا المنصوبة امامه ويتعلثم فى الحديث .. يهنئ الشعب السودانى تارة .. ويدعو الأحزاب السياسية للحاق بركبهم تارة أخرى .. لم يستقر على كنية يتواصل بها المذيعة الأنيقة التى تحادثه فحيناً (سيدتى) وأحياناً (أختاه).. كما حديثه الذى شكل خليطاً بين الفصحى والعامية .. الأفكار تتشتت والمذيعة تحاول بلباقة إعادة الحوار لموضعه.. فتسأله عن الآلية التى سوف يسقطون حكومة البشير .. ليقول أن مناصريهم بالداخل سوف يخرجون فى (مسيرات) تأكيداً على رغبتهم فى إسقاط البشير وحكومته .. أنهت المذيعة المقابلة ولم ينكأة ضيفها الباريسى جراح الأزمة الإقتصادية الطاحنة التى تنخر عظم المواطن السودانى .. ولم ييمم وجهه شطر دارفور التى يمثلها ليحدثها عن التطهير العرقى والإبادة الجماعية وبشيرها الملاحق دولياً قبل أن يلاحق محلياً .. ولم تسعفه الذاكرة للعود سويعات للوراء للحديث عن قصف معسكرات النازحيين داخل الدولة الوليدة..
(البرلوم) مصطلح يطلقه الطلاب الجامعيين القدامى على الوافدين الجدد من المدارس الثانوية قبل أن يتأقلموا على البيئة الجامعية وطرائق التعامل داخلها فكراً وسلوكاً .. وكما فى الحياة الجامعية (برالمة) .. فليس بعيداً أن يكون فى الحياة السياسية (برالمة سياسيون).. وتحالف الجبهة الثورية السودانية وضع عليه الشعب السودانى ما تبقى لديه من آمال.. ومن النادر فى ظل زخم ثورات الربيع العربى ان تتيح قناة الجزيرة مثل تلك الفرصة الذهبية لأى جهة سودانية معارضة لتوجه سهامها الإعلامية صوب حكومة البشير.. ومشهد (البرلوم الباريسى) واللص (الإنقاذى).. يفاقم المرارات التى ماعادت تحتمل.. ويفتح للبؤس طريقاً ليخترق الأفئدة .. وينهش جرحاً لايزال يذكرنا بمن يحكمون بأسمنا ومن يعارضون بأسمنا أيضاً.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق