بحث هذه المدونة الإلكترونية
د. لايف مانجر
ترجمة : مجدى النعيم
مراجعة : جعفر بامكار
يعالج هذا الفصل البقاء الإجتماعى– الثقافى للهدندوة. ويوضح أن البقاء فى الجبال لا يقوم على الموارد الإقتصادية فحسب، وإنما على الموارد الثقافية أيضاً. والمفاهيم الرئيسية التى نناقشها هى المنحدر والقرابة ، والشرف والهوية. ويوضح الفصل أن هذه العناصر تتشكل من كم هى الأرض مركزية فى ثقافة الهدندوة ، ثم يمضى قدماً ليوضح مختلف أنواع التغيرات التى حدثت بسبب الإندماج المضطرد للهدندوة فى مجتمعهم السودانى الأوسع. ففى هذا المجتمع يقابل الهدندوة مجموعات أخرى من الناس مثل التجار ووكلاء الدولة النافذين. وهذا الإحتكاك هو ضرب من اللاتساوى الثقافى. ويوضح نقاشنا هنا كيف يتعامل مختلف الهدندوة مع هذا، بعضهم يتبنى قسماً من الثقافة المهيمنة، لكن آخرين، مثل النساء، يستفدن منه بتحدى وضعهن داخل المجتمع التقليدى. لذا يبدو إستمرار الهدندوة عملية معقدة يجب ألا تختزل إلى محض صراع من أجل البقاء فى بيئة هامشية .
مقدمـة :
يجب ألا تختزل بقاء الهدندوة على صراع يتكون فقط من الإعتبارات الإقتصادية داخل بيئة طبيعية معينة. فحياة الهدندوة معنية، بالطبع، بأشياء وهذه الجوانب هى العوامل الإجتماعية–الثقافية التى تعطى المباراة الاقتصادية شكلها وتساعد عل تشكيل تصورات الناس عن البيئة الطبيعية والأصول الإقتصادية مثل الحيوانات ومشاركتهم الشخصية فى الحياة اليومية.
إذن فهذا الفصل يعالج هذه العوامل الإجتماعية– الثقافية. فهو يسعى الى تأسيس المكونات الإجتماعية– الثقافية الرئيسية لأسلوب حياة الهدندوة . تشمل المفاهيم الأساسية لنقاشنا المنحدر والقرابة والقرابة والشرف والهوية الخ.. ونقارب هذه القضايا بطريقتين. أولاً, بتأسيس العناصر الرئيسية المكونة لهذه الأبعاد الاجتماعية – الثقافية، أي المؤسسات، والمفاهيم الأساسية المنحدر والقرابة والشرف والهوية إلخ.. ونقارب هذه القضايا بطريقتين .. أولاً ، بتأسيس العناصر الرئيسية المكونة لهذه الأبعاد الإجتماعية – الثقافية ، أى المؤسسات ، والمفاهيم الأساسية الخ.. وثانيا سنحاول أن نشير كيف تأثر هذا بالسياقات الاجتماعية –وسيركز هذا النقاش أيضاً على تكيف الهدندوة كمباراة إدارة ، لكنها إدارة لأصول ذات نوع مختلف عن تلك الأنواع , أعني ذات طابع إجتماعي – ثقافي , يرتبط علي وجه الخصوص بمفهوم الشرف (دوراريت). ويجب النظر إلى هذه المباراة الإدارية في سياق الحقائق التاريخية التي يجد الهدندوة انفسهم فيها لذا سيكون الهدف المهم هو تحديد تأثيرات مختلف أنواع العمليات .
من هـــم الهدندوة ؟
الهدندوة هم القسم الأكبر من مجموعة البجا وتتحدث لغة التبداوى من الفرع الكوشتى (عائلة فرعية من العائلة الاسيوية – المترجم) والعنصر الأساسي الدي يحدد الأصل والهوية الهدندوية هو نظام القرابة. وترجع كل المجموعات الهدندوية أصلها إلى أبناء باركوين السبعة (الجد الأسطوري) هدات (الجدة الأسطورية). وترجع كل السلالات أصلها إلى باركوين, لكن هناك تمييز مهم بين السلالات التى تزعم انحدارها من واحد من أبناء باركوين والثلاثة المنحدرين من بناته وحالة هذه المجموعات الأخيرة تتضمن سلفا عربيا ذكراً. لذا فقد دخلت نقطة مهمة حول أصل الهدندوة سلفا كموضوع أساسي في تاريخ نسبهم , أي علاقة النسب من خلال الرجال ومن خلال النساء داخل مجموعة الهدندوة وموضوع العلاقة بين الهدندوة كمجموعة بجاوية والعرب. ومع ذلك فالشعور بأن الانتماء الإثنى لكل الهدندوة يرتبط بالاعتقاد في الانتماء لأصل مشترك هو حقيقة. وهذه الوحدة تقوم على الدم (او بوى). فعلاقة الدم هي اساس قرابة الهدندوة وهي موروثة من الأسلاف لذلك يجب الحفاظ عليها .وأحد سبل الحفاظ على السلالة موحدة هوالزواج داخل القبيلة. والرمر الثاني الرئيسي لوحدة القبيلة هو الأرض المشتركة التى ترمز إلى المنجزات التاريخية للأسلاف. وهنا تجب حماية الأرض وإدارتها بطرق تحافظ غلى الشرف الجماعي للهدندوة. وهكذا تدور وحدة الهدندوة حول قيم أضيفت على البنية القبلية كما حددتها السلالات المنحدرة عن الأب , والحقوق المشتركة في الارض ,واللغة المشتركة. وتتجلى الوحدة أيضا في توزيع وقبول مختلف الادواروسط مختلف المجموعات الفرعية لذا فقد أسند (للويلألياب) دور القيادة السياسية والعسكرية ويحتل الهاكولاب موقع النصح والتحكيم (الشورى) بينما يتولى الشبوديناب رمام الأمور الدينية .
قبائل وبطون الهدندوة في الزمان والمكان :
إنتشرت وحدات الهدندوة عبر المنطقة التى يشغلونها الآن وقد إعتمد هذا الإنتشار على القوة العسكرية والسياسية. وإن القرن التاسع عشر والعشرين مهمان بوجه خاص حيث حدثت التمازجات فى هاتين الفترتين. وكان من بين تأثيرات الإستعمار ذلك الإنتشار الواسع للزراعة المروية والزيادة الهائلة فى زراعة القطن فى دلتا القاش. فأقيمت القرى فى المواقع الإستراتيجية فى القاش وبدأ الناس المنتمين الى مختلف المجموعات الأثنية الإستقرار فيها وهاجرت القبائل من جبال البحر الأحمر الى القاش لتنضم الى هذه القرى وأصبحوا جزارين ومزارعين وخفراء ورجال شرطة وطباخين. وقد أثر هذا التاريخ على مختلف القبائل بمختلف السبل.
الجميلاب هم الأكثر عدداً بين قبائل الهدندوة ومنطقتهم الأصلية قريبة من الحدود الأرترية، حوالى ثلثى المسافة بين كسلا وطوكر. وينتشرون عبرالإقليم الشرقى من سنكات الى القضارف. وتركزهم الأكبر (حوالى نصف عددهم الإجمالى) نجده حول موطنهم الأصلى ، أى حول همشكوريب ووينرباب. وقد حدث إنتشار الجميلاب خلال العقود الأربعة أو الخمسة الأخيرة. وتزامن هذا مع ميلاد ونمو طريقة صوفية جديدة تأسست فى مطلع الخمسينات على يد على بيتاى وهو رجل دين من الجميلاب. والجميلاب كانوا هم الأكثر تعرضاً لغارات البنى عامر أثناء حربهم الأخيرة مع الهدندوة. وقد بدأت هذه الحرب عندما وصل الإيطاليون فى إرتريا الى كسلا فى 1940 وإنتهت عندما نجح البريطانيون فى تهدئة المنطقة .
وقد بدأ الجميلاب المعرضين للغارات البحث عن سبل بديلة للعيش خلاف الحياة الرعوية التقليدية. فتبنى على بيتاى هذه الدعوة ويذكر أحد أتباعه رسالته فى الكلمات البسيطة التالية (إنك تحب حيواناتك كثيراً وتهتم بها كثيراً . والحيوانات لا تعطيك الفرصة لتعلم القرآن. بعها وأبدأ التجارة. الرجال الكبار يجب ألا يكذبوا أو يسرقوا أبداً ، يجب أن يكونوا أمنين). وقد أعطى الوفاء بهذه التصورات زخماً جديداً لأنشطة الجميلاب ، كما منحهم ميزة على الهدندوة الآخرين أثناء الأزمات التى تؤثر على الحيوانات لأنهم لم يعودوا منخرطين فى الرعى. فإنطلقوا فى التجارة بحماسة دينية ، وبدءوا ينشرون المحطات التجارية عبر الإقليم الشرقى ويبنون بجوارها مساجد صغيرة . وقد لعب التجار أحياناً دور الشيوخ ، حيث كانوا مرتبطين أيضاً بشدة بالأنشطة الدينية التى تدور حول المسجد . وقد مكن تعلم قراءة القرآن ونسخ آيات من سوره معظم التجار الجميلاب من تعلم القراءة ومسك الحسابات وتحسين حالتهم الى حد كبير .
وفى الخمسينيات والستينات حدث لهم المزيد من الإزدهار ، فقد إكتشف المزارعون فى القطن الذى يزرعونه فى دلتا القاش وطوكر يجلب أسعاراً أعلى فى الأسواق الحرة فى مينائى مصوع وعصب الإرتريين من تلك التى يدفعها البريطانيون والإداريون السودانيون من بعدهم. فبدأت إثر معرفتهم بذلك تجارة تهريب مزدهرة مع إرتريا. وقد مرت معظم حركة التهريب، حتى توقفها تماماً منذ سنوات مضت بسبب ثورة الإرتريين ضد الإثيوبيين، عبر أرض الجميلاب. وعلى الرغم من أن القبيلة ليس لها "دمر" أو موقع مملوك لها فى دلتا القاش فقد كان أفرادها يسجلون كحائزين بواسطة المؤسسة. لقد أصبح موقعهم كتجار يجد الإعتراف بشكل مطرد .
وفى همشكوريب كانت المدارس القرآنية التى أسسها الشيخ على بيتاى للرجال والنساء فى حالة إزدهار فقد كان الشيخ قادراً من خلال شخصيته وكاريزمته على حث الحكومة الإقليمية على إدخال الخدمات الاجتماعية بما فى ذلك مستشفى ومحطة بيطرية فى مكان بعيد عن خطوط الإتصالات مثل همشكوريب. وإرتاد هذه المدارس القرآنية من الطلاب ليسوا من الجميلاب فقط ، بل من كل قبائل الهدندوة ومن قبائل البجا الآخرين من البنى عامر، أعداء الجميلاب السابقين. وتزوج الكثير من أفراد المجوعات الأثينية والأخرى من الجميلاب، وإندمجوا فيها. وهذا واحد من الآليات التى تشجع النمو السريع فى الأزمان المواتية .
القبيلة الثانية الأكبر حجماً هى الشرعاب والشرعاب مثل الكثير من قبائل الهدندوة الأخرى ، رحل ينتقلون بين مركزين رئيسيين، واحد فى مرتفعات البحر الأحمر والآخر فى دلتا القاش ، حيث يأتى الرجال فى وقت البذر وفى وقت الحصاد. وقد تترك العائلات والحيوانات فى الجبال بسبب المناخ الصحى وعدم وجود الحشرات . ثم إنعكس الوضع بعد أن إستصلح البريطانيون دلتا القاش وأصبحت العائلات تبقى قريبة من أطراف الدلتا ، بينما تخرج منها القطعان أثناء الموسم المطير . وقد كانت مواقعهم الأولى فى العهود قبل الإستعمار فى جبال البحر الأحمر وجنوب أركويت عندما إستولى البريطانيون على دلتا القاش، تحولوا جزئيا الى دمرهم الثانى فى رقاقات، وهى منطقة غابات فى الطرف الجنوبى من دلتا القاش تقع على مسيرة ساعات قليلة من وقر وهى أكبر سوق فى النصف الشمالى من الدلتا. والكثير من التجار فى وقر حالياً الشرعاب ولا يفوقهم عدداً سوى الجعليين (من النيل) والهوسا ذوى الأصل الغرب أفريقى .
يعتمد كثير من الشرعاب على إقتصاد السوق . فالكثيرون يعملون كخفراء (حراس) فى بورتسودان أو وقر. ومن لم يصبحوا سكاناً مستقرين فى القرى بل أصبحوا شبه مستقرين فى الغابة ويملكون ، بسبب الجفاف ، القليل من الحيوانات ويكسبون عيشهم من العمل بالتبادل بين الزراعة من أغسطس الى يناير وإنتاج ونقل الفحم النباتى من رقاقات من يناير الى يونيو والكثيرون منهم يهاجرون الى بورتسودان حيث يحصلون على وظائف . ويبدو أن الشرعاب قد مروا بفترة توسع أثناء الأزمنة الإستعمارية لأنهم عاشوا قريبين من دلتا القاش . وقد سمح لهم هذا بمواصلة مهنتهم التقليدية الرعوية ، كما زاد إنخراطهم فى الزراعة فى نفس الوقت. ويبدو أنه لم يحدث لهم دفع جديد مثلما حدث للجميلاب الذين بدءاو إزدهارهم فى مطلع الخمسينيات وما يزالون يعيشون مرحلة الإزدهار . ولكن يبدوا أن الشرعاب كانوا أقل تأثراً بنتائج الجفاف من القبائل الأخرى التى إعتمدت أكثر على الإقتصاد الرعوى .
البشارياب عددهم يماثل عدد الشرعاب تقريباً . وكان دامرهم فى الفترة قبل الإستعمار جنوب سنكات . وقد قدموا الى القاش بعد أن أقام البريطانيون المشروع . فأقاموا دامراً ثانياً على الأطراف الشمالية لدلتا القاش مع حدود الشرعاب فى الجنوب الغربى وقد إزدهر حالهم أثناء الفترة الإستعمارية بإقامتهم إقتصادهم كلياً على الرعى . إذ كانت تربية الحيوانات ، القائمة على قطعان الجمال خاصة ، أقل إنخراطاً فى أنشطة السوق فإحتفظوا تقريباً بمهنتهم التقليدية وهى رعى الجمال والضأن . ويقال أن عائلاتهم قد عانت، خصوصاً فى الجفاف الأخير الذى إستمر طوال السنوات الأخيرة . فقد جفت المراعى القريبة من دامرهم التى تروى عادة بهطول الأمطار وأصبح يتعين عليهم أن يأخذوا جمالهم وخرافهم الى أماكن بعيدة مثل نهر عطبرة والقضارف . ونتيجة لذلك ترك للعائلات القليل من اللبن لإستخدامها الخاص .
ولأن البشارياب رعاة أساساً فقد أصبحوا من بين الأكثر تأثراً بالجفاف الذى سبب نفوق أعداد هائلة من الحيوانات . وبسبب إحتكاكهم المحدود بسوق وقر ، لم يكونوا قادرين على إستكمال دخلهم بأنشطة بديلة . وقد بدءوا خلال السنوات الأخيرة الإنتقال الى أطراف قرية وقر حيث تخيم أعداد متزايدة منهم جنوبى القرية فيما أصبح أفقر جزء فيها . وهم يدخلون الآن الى بنية القرية فى أدنى مستوى ممكن يسحبون المياه من الآبار للحيوانات أو يعملون كسقاءين . وهناك تجار بشارياب قليلون جداً فى سوق وقر فى الوقت الحالى . ولكن بدأ شيوخ من نواحٍ قصية يعيشون فى القرية حيث أدركوا أهمية الإتصال بالسوق . وبسبب عزلتهم ، فإن القليلين جداً من البشارياب ملمون بالقراءة والكتابة ، ويعتبرهم الهدندوة الآخرين فظين ومشاكسين .
ويلى البشارياب فى القوة ( القرئيب) . ومكانهم الأصلى جبيت ، بين سنكات وبورتسودان. والقرئيب هم أقرب قبائل الهدندوة موطناً الى بورتسودان. وقد إستفادوا من كل المزايا الناشئة عن قربهم من مركز تجارى مهم . فوفروا العمال والمستخدمين للسكك الحديدية والميناء. ويعتبرون الآن بصفة عامة أفضل الهدندوة تعاملاً والعديدون منهم أصبحوا سائقى لوارى وميكانيكين بالسكة حديد وعمال فى ورشة جبيت للسكة حديد وبعضهم مدرسون. وقد ساعدتهم تخصصاتهم على الهجرة الى مدن أخرى على خط السكة الحديد مثل سنكات وهيأ ومسمار ، لكن القليلين منهم جاءوا الى القاش. إنهم يتحضرون بسرعة .
أيضاً من بين أكبر القبائل قبيلة ( السمرأر) التى كان لها موطنين ، الأول شمال سنكات والثانى فى دلتا القاش فى أوليب جنوب شرق (وقر) . وقد قطع الناس فى هذه القبيلة شوطاً أبعد فى إنخراطهم فى أنشطة السوق والزراعة ونتيجة لذلك لم يتأثروا كثيراً بالجفاف الأخير. وهم يعيشون فى قرى القاش أو المناطق المجاورة لها ويستكملون دخلهم الناتج عن الحيوانات القلية التى يملكونها بأنشطة مرتبطة بسوق القرية والزراعة. ولا تتمتع هذه القبيلة بهوية قبلية بمثل قوة هوية الجميلاب أو الشرعاب أو البشارياب. لأنهم قطعوا شوطاً أبعد فى الإستقرار. فأيدولوجيا القبيلة التى بدأت تستقر ، طغت عليها ولاءات مختلفة أكثر إلتصاقاً بحياة القرية .
ومن بين القبائل المتوسطة الحجم نجد أكثرها نجاحاً ، وإن كان بسبل مختلفة ، القايداب – السمرندواب – الويلالياب وكلها رسخت مواقعها المتميزة أثناء الفترة الإستعمارية فقد كانت كانت كل قبيلة منهم تملك ثلاث شيوعات فى القاش قبل ظهور مشروع القاش. وكان المركز التقليدى للقايداب يقع بين سنكات وسواكن وقد زرعوا شيوعات فى القاش قريباً من وقر وميتاتيب. وكانوا ينقلون معسكراتهم فى الخريف الى منطقة توقوى شمال دلتا القاش ومثل القرئيب كان القايداب أول من أدرك مزايا حياة الاستقرار والتعليم. فقد أصبح العديدون منهم مدرسين وقضاة وموظفين فى الإدارة . ومن لم يلتحق بمهنة فى الإدارة إمتهن التجارة الأكثر ربحية، القائمة على معرفتهم التقليدية التى كانت مفتوحة لهم إذ أصبحوا جزارين. ولن نجانب الصواب لو قلنا أن هناك القليل من القايداب يعيشون فى المعسكرات فى الغابة ، وأقل منهم ما يزالون يعتمدون فى عيشهم على الرعى . ومن عملوا بالجزارة يمارسون تجارة مربحة ، متسقة تماماً مع تراثهم وإتجاههم . وعندما إستقر القايداب فى وقر قبل نحو خمسين عاماً جعلوا من الجزارة تخصصهم. وهم من أغنى الناس فى وقر . ومعظم أولادهم يدخلون المدارس من أجل مهن أفضل. وهم الأقرب بين الهدندوة، ومن وجهة النظر السياسية والطائفية، من الشماليين النيليين المسيطرين. ويتم إمتصاصهم فى التنظيم الإدارى والوطنى ويتوافقون أكثر وأكثر مع الثقافات النهرية السائدة.
يتمركز سمرندواب شمال دلتا القاش مباشرة ، بالقرب من أودى. وعددهم نفس عدد القايداب والويلألياب، ويأتون الى دلتا القاش فى نفس الوقت تقريباً. ويستمدون مكانتهم من العدد "الكبير من رجال الدين" الذين ينتمون الى صفوفهم. وهم يعملون كشيوخ وكممارسين طبيين للقبائل الأخرى كذلك . وقد جعلتهم إرتباطاتهم الدينية أكثر إكتفاء ذاتياً من الناحية المالية من القبائل الأخرى التى ترتبط بالإقتصاد الرعوى التقليدى. وقد أصبح بعضهم تجاراً، ولكنهم لم ينخرطوا فى التطورات الجديدة بقدر القايداب. فهم محافظون مثل الويلألياب، رغم أنه ليس هناك تفاوت كبير بين من يملكون ومن لا يملكون داخل القبيلة . ويعود هذا جزئياً الى مهنتهم الدينية التى تحثهم على إشراك أقاربهم الأقل ثراء.
لقبيلة الويلألياب وضع مختلف. فقوتهم العددية مساوية تقريباً القايداب والسمارنداب. ولهم قطبا إقامة، واحد قريب من سنكات فى جبال البحر الأحمر والآخر فى الحدود الغربية لدلتا القاش، حيث كانوا كثيرى العدد مثل القايداب. وقد حاز الويلألياب لحوالى مائتى سنة إمتياز نظارة الهدندوة. وقد جعلهم هذا الإمتياز يصبحون محافظين. فهم ليسوا حضريين مثل القايداب، ولا متعلمين مثلهم. والعديدون منهم ما يزالون يتمسكون بالإقتصاد الرعوى التقليدى وهناك القليل من التجار، فهم فى الغالب مستثمرين لثروة تلقوها من إمتيازات الأسلاف التى منحها البريطانيون لهؤلاء الأسلاف وهناك تفاوت كبير فى الثروة بين العائلات التى تنتمى للقبيلة. إذ تحوى كل ألوان الطيف من الأكثر غنى الى الأشد فقراً، والأخيرون هم الأكثر عدداً. ويستفيد أفرادها الأكثر ثراء من المكانة التى إكتسبوها من تعاقب نظار الويلألياب لزمن طويل، مما جعل أفرادها شركاء مرغوبين فى معظم التبادلات الإجتماعية–الإقتصادية. ويبدو أن القبيلة قد فقدت زمام المبادرة وأنها الآن تمر بمرحلة ثبات.
د. منصور خالد
من الظلم تحميل كل الشماليين ذنبا ارتكبه بعض أسلافهم ولكن هذا لا يعفيهم من المسؤولية الأدبية
• الاستعمار لعب دورا في تعميق الأزمة بين الشمال والجنوب لكنه لا يتحمل حصريا المسؤولية، لولا مراوغة حكام الشمال في تناول قضية الرق لانتهت «القضية» منذ زمان كما انتهت في مناطق أخرى أسهم بعض السياسيين الجنوبيين في إخراج موضوع الرق عن سياقه التاريخي حتى أصبح ذريعة افتتان.
ظلت مشكلة «تجارة الرق» احدى اهم النقاط الساخنة في تاريخ السودان القريب وقد صام كثير من الشماليين عن الخوض فيها اما تحرجا او لا مبالاة، مما أدى الى اشتعال الحرب الأهلية في الجنوب. لكن الدكتور منصور خالد وزير الخارجية السوداني في عهد الرئيس الاسبق جعفر نميري فتح الباب على مصراعيه لبحث هذه القضية التي تسببت في صدمة نفسية دائمة للجنوبيين قادت بدورها الى ردود فعل غير معافاة وحروب. ويقول في كتابه الجديد «السودان: أهوال الحرب وطموحات السلام ـ قصة بلدين» الذي يروي قصة الخمسين عاماً الأخيرة في السودان، ان المستعمر البريطاني لعب دورا كبيرا في استرجاع اسوأ الذكريات المتعلقة بتجارة الرقيق بهدف تعبئة الجنوبيين ضد الشماليين لذلك أخذ الجنوبيون ـ وما زال بعضهم مثابرا على ذلك حتى اللحظة ـ يحملون اهل الشمال كله المسؤولية عن خطأ ارتكبه اسلافهم. ويوضح ان «الادانة لشعب بأكمله على اخطاء ارتكبها نفر من اهله في الماضي تتسم بالظلم ويفتقد الحكمة». ورغم اعتراف الدكتور منصور خالد الذي يشغل حاليا مستشارا لزعيم الحركة الشعبية لتحرير السودان جون قرنق بالقضية الا انه اشار الى ان تناوله لها يؤلمه كما سيؤلم القارئ، الا انه لام حكام السودان بعد الاستقلال ونخبة من المفكرين فيه، لابتعادهم عن هذه القضية او «مراوغتهم» في تناولهم آثارها على السياسات المعاصرة. وقال «لولا تلك المراوغة لانتهى الحديث حول الرق منذ زمان كما انتهى في بلاد اخرى، ولكان في نهايته شفاء للامة من جراحها المثخنة».
ما فتئ جزء هام من نخب الشمال في السودان ينظر لأهل الجنوب وكأنهم بفطرتهم، أدنى مرتبة من الشماليين. هذا التصنيف وتداعياته الرمزية طال حتى مواقع العمل التي يفترض ان يحتلها المرء بحكم تأهيله العلمي وقدراته الفكرية، لا أصله العرقي. مرد ذلك التقسيم الزري هو الصور الذهنية للسيد والعبد التي تركتها ثقافة الرق في المخيال الجمعي الشمالي، والتي أسفرت عن صدمة نفسية (trauma) دائمة بين الجنوبيين، قادت، بدورها، الى ردود فعل غير معافاة: هذه هي الحقائق التي أوصدنا عنها في الشمال عقلنا بمغلاق متين، إما تحرجاً أو لا مبالاة. ولولا ان حكام السودان بعد الاستقلال ونخبه المفكرة ذهبوا الى المراوغة في إقبالهم على تناول الآثار الحقيقية والمفتعلة لتلك الظاهرة على السياسات المعاصرة، لانتهى الحديث حول الرق منذ زمان، كما انتهى في بلاد أخرى، ولكان في نهايته شفاء للأمة من جراحها المثخنة.
بسبب من تلك المراوغة، استحال محو الصور الاستزرائية التي شحنتها ثقافة العبودية في الأذهان. لم يدر بخلد القيادات والنخب ان واحدا من اهم دواعي الاحتقان في نفوس الجنوبيين وغيرهم من المهمشين مثل النوبة والفور وقبائل الأنقسنا، هو استدامة تلك الصور في العقل الجمعي الشمالي. على النقيض، سعت القيادات بدأب ملموس لمسخ الوقائع التاريخية بهدف انكار صلة العبودية بالأزمة الحالية في السودان. هذا ايضا كان هو موقف أغلب مؤرخي الشمال، كشطوا تلك الصفحة من التاريخ فانكشط للناس سرهم. هذا منهج معيب لأن الأمر تجاوز الاستخفاف بظاهرة اجتماعية تركت وراءها أثراً بارزاً، الى تزييف وقائع التاريخ. والتاريخ، كما نعرف، ليس جوهراً صافياً، اذ فيه الزكى الطيب، وفيه الفاسد العطن. صحيح ان التاريخ ليس بريئاً من كل عيب لأنه لا يعبر الا عن رؤية كاتبيه، وكما يقول المؤرخ المعرف إ.هـ. كار (E.H.Carr) ليس للتاريخ وجود مستقل عن الذين يترجمونه (history has no free-standing from those who interpret it)، ولكن هذا لا يبيح طمس الوقائع. فالمؤرخ الذي يزيف الوقائع، بطمسها أو تغييبها، يخدش ضمير التاريخ نفسه. وكثيراً ما يكون تغييب الحقائق ناجماً عن تحيز منهجي أو معرفي يدفع المؤرخ لانتقاء الوقائع التي تثبت موقفه المنحاز، واستثناء تلك التي تتعارض مع ذلك الموقف. هذه مناسبة لأن نشيد فيها ـ مرة أخرى بجهد ـ الاستاذ محمد ابراهيم نقد في إجلاء الحقائق عن ظاهرة الرق في فترة المهدية، كما نشيد بالجهود المتواترة للدكتور أحمد العوض سيكيانقا حول الرق في السودان بصفة عامة. تلك قضية لا يملك المؤرخ الرصين إغفالها أو بترها، وان فعل فلن يكون في تاريخه مقنع للباحثين عن الحقائق المجردة، لأن المعرفة البتراء تحيد بالمرء عن الصواب. لهذا السبب أولينا تاريخ العبودية في السودان جزءاً هاماً من هذا الكتاب عبر كل الحقب، حتى وان كان في ذلك هز للصور المعرفية السائدة في العقل الشمالي والعقل الجنوبي. ففي الحالة الاولى اسهم المؤرخون الشماليون بإغفالهم لتلك الظاهرة، إسهاماً كبيراً في ترسيخ الصور السائدة. وفي الحالة الثانية لعب بعض السياسيين الجنوبيين دوراً كبيراً في إخراج موضوع الرق عن سياقه التاريخي حتى اصبح ذريعة افتتان.
مواقف حكومات الشمال حيال الجنوب لم تكن لتسهل دون تعاون طائفة من الساسة الجنوبيين الرحّل (nomads) الذين واظبوا على التنقل من حزب شمالي الى آخر، ومن حكومة شمالية الى اخرى ببراعة مذهلة. تلك الطغمة من الانتهازيين لم تبال بأن يكون لها موقع في كل حكومات الشمال حتى تلك، مثل نظام الجبهة، التي لا يتوقع عاقل ان يكون لجنوبي غير مسلم مكان فيها بحكم توجهها الديني الانغلاقي، وسياساتها الجهادية نحو الجنوب، وازدرائها للديانات الأخرى. رغم كل هذا، وجد طريقه الى ذلك النظام، المحارب الجنوبي القديم، والقس الذي لا يحتشم، دعك عن انتهازيين من الدرجة الثالثة ما فتئوا منذ الستينات يتدافعون على موائد لا يستمرئ طعامها الا بصباص (متملق) لئيم.
دور المستعمر لعب المستعمرون ـ بلا جدال ـ دورا كبيرا في استرجاع اسوأ الذكريات المتعلقة بتجارة الرقيق بهدف تعبئة الجنوبيين ضد الشمال كله. نتيجة لذلك، اخذ الجنوبيون ـ وما زال بعضهم مثابراً على ذلك حتى اللحظة ـ يحملون اهل الشمال كله المسؤولية عن خطأ ارتكبه اسلافهم. على ان الادانة لشعب بأكمله على اخطاء ارتكبها نفر من اهله في الماضي، أمر يتسم بالظلم ويفتقد الحكمة. هذه النظرة الموضوعية الباردة يجب ان لا تعفينا في الشمال من المسؤولية الادبية عن آثار ذلك التاريخ الشائن، فالشمال وحده هو الذي جنى ثمار الاسترقاق، كان ذلك في الدفاع عن نظام حكمه (الدولة المهدية)، او في بناء قاعدته الاقتصادية (الاقطاع الزراعي)، او في العناية بمرافقه الخدمية. ومع الاعتراف بتعميق الاستعمار لعوامل الانقسام الراهن بين الشمال والجنوب، فان تحميله ـ بصورة حصرية ـ المسؤولية عن كل مآسي السودان الراهنة لا يعدو ان يكون مزحة سخيفة. فمنذ الاستقلال توفرت لساسة الشمال فرص لمعالجة الاخطاء الموروثة من عهد الاستعمار، وضمد الجراح، والتوجه بالسودان في طريق البناء والرفاه في ظل تعايش متناغم بين ابنائه. ولكن استمرار الحرب نصف قرن من الزمان بعد خروج الاستعمار يظهر ان ثمة شيئاً متعفناً في مملكة الدنمارك (There is something rotten in the Kingdom of Denmark) هـذا العفن عجزت انوف الطبقة الحاكمة في الشمال عن شميم رائحته الساطعة.
وعندما بدأ الجنوبيون يطالبون بمكانهم تحت الشمس، باعتبار ان ذلك حق مشروع لهم، لم ير اهل الحل والعقد في الخرطوم في تلك المطالب الا تعدياً على خصوصيات الشمال، بل وعلى حقه الموروث في ان يقرر بمفرده مصير القطر كله، بدلاً من اهتبال تلك الفرصة لإصلاح الأخطاء التاريخية. من تلك الخصوصيات الشمالية، كما قلنا، اعتبار رواد الحركة السياسية منذ ثلاثينيات القرن الماضي ان الثقافة الاسلامية العربية، المحدد الوحيد والمكون الاساس للهوية الوطنية السودانية. ولو جاء ذلك الطرح في بيئة اكثر معافاة من البيئة التي تسودها ثقافة الاسترقاق، وتطغى عليها النظرة الاستهجانية لغير العرب ـ بمن فيهم ابناء واحفاد الارقاء في شمال السودان والذين اصبحوا شماليين بكل ما تعني الكلمة من معنى ـ فلربما كان لرواد الحركة الوطنية ما أرادوا. ولكن في ظل الثقافة الشمالية الاستعلائية، والنظرة البطرقية الطاغية من جانب الشمال للجنوب، كان رد فعل اهل الجنوب هو الاستمساك بخصائصهم الثقافية ودياناتهم المحلية وعاداتهم الموروثة. لم يتحملوا الالم في صمت كما افترض السادة ظناً منهم ان العبد ينبغي ان لا يعصى لسيده أمراً.
المهدية والرق وفي سرده لمراحل تجارة الرقيق في السودان، تحدث الكاتب عن الدولة المهدية (1889 ـ 1898)، وقال:
في سبيل اقامة دولتها اباحت المهدية ايضاً سبي المسلمين المتنكرين لدعوتها بعد ان قررت ان انكار المهدية والكفر سواء. وفي التاريخ شواهد موجعة على اباحة سفك الدماء وبيع المسلم الحر في ذلك العهد. فمنشور المهدي فيما يتعلق بالاسترقاق كان واضحا: ان يسترق بحد السيف كل من لم يهده الله الى الاسلام من غير المسلمين او ينكر الاعتراف بالمهدي المنتظر، مسلما كان ام غير مسلم. وبهذا اتجهت المهدية بالجهاد وسبي الحرب اتجاها غير مألوف، بل مبتدع، اذ يحرم الاسلام سبي المسلم للمسلم. ويروي شقير ان محمود ود احمد قد بعث للخليفة بـ 234 جارية من المتمة يمثلن خمس السبي الذي سباه من فتيات الجعليين، مما حمل اخواتهن، حسب رواية شقير، على القاء انفسهن في النيل تفضيلاً للموت على حياة الفضيحة والعار. وكان سبي النساء والرجال بين القبائل المسلمة التي انكرت المهدية كالكبابيش والشكرية والجعليين اكبر عامل في تبغيض المهدية لقبائل الشمال حتى للحد الذي دفع بعضهم، كالشكرية مثلا، للتضرع الى النصارى لكي ينقذوهم من دولة الاسلام التي اذلت قومهم والحقت بهم الهونى. عن اولئك عبر شاعرهم الحردلو:
أولاد ناس عزاز مثل الكلاب سوونا ـ يا يابا النقس، يا الانكليز الفونا.
استقصى نعوم شقير (مؤرخ) ايضا تسري المهدي بثلاث وستين فتاة من بنات الاسر الشمالية، سُبين في الحرب. في حين لم يتسر الرسول رغم كل حروبه الا بأربع، اثنتان منهن من سبايا الحرب: ريحانة بنت يزيد من سبي بني النضير وقعت في سهم ثابت بن يزيد فكاتبها على تسع اواق لم يؤدها فأداها عنه الرسول وتزوجها، وجويرية بنت الحارث (من سبي بن المصطلق)، واثنتان أُهديتا اليه (ماريا) ام ولده ابراهيم اهداها المقوقس عظيم القبط، واخرى اهدتها له (زينب بنت جحش). وفي حقيقة الأمر اهدى المقوقس الى رسول الله جاريتين تأمى بواحدة منهما هي ماريا، واهدى الثانية (سيرين) الى شاعره حسان بن ثابت، وكانت تجيد الغناء ونقر الدف، ولعل رسول الله اختار لها من يتغنى بشعره.
المهدية والجنوب ومع تمكنها من فرض هيمنتها الكاملة على الشمال، لم تنجح المهدية في تحقيق سيطرة تامة على الجنوب، اذ توقفت سيطرتها جنوباً عند مناطق في بحر الغزال وأعالي النيل.
بعض هذه المناطق (مثل الرجاف) اصبحت حاميات يعزل فيها، او ينفى اليها المنشقون عن المهدية. وبوجه عام، فان اكثر ما يستذكره الجنوبيون من المهدية هو سعيها لفرض اسلام طهراني قاس عليهم، واطلاق العنان من جديد لتجارة الرقيق. تلك النظرة السلبية للمهدية لدى اهل الجنوب سبقها شهر عسل قصير بينهم وبين الدولة المهدية، لاسيما وقد توسموا فيها الخير، وحسبوا ان لهم فيها منجاة من عسف الأتراك. في شهر العسل ذلك، يقول فرانسيس دينق، نظم الجنوبيون الاماديح في المهدي، وعده الدينكا تجلياً لأحد آلهتهم هب لتحريرهم من نير الحكم التركي. وفي حواراته مع شيوخ الدين روى دينق ايضا قولاً للزعيم قيرديت جاء فيه: على الرغم من ان المهدي قد بدأ كمحرر للناس الا ان حكمه اصبح سيئا حيث اراد ان يستبعد الناس. أما الزعيم ماكوي بيلكوي فقد اشار الى معاناة الدينكا من الاتراك الذين اتوا مهاجمين وما ان استولوا على قبيلة حتى استعبدوها ثم استخدموها لغزو قبيلة اخرى. ويضيف ماكوي ان الدينكا تبعوا المهدي في البداية باعتباره قائدا عفيفا ومستقيما ولكنهم عندما اكتشفوا الطبيعة التدميرية لحكم المهدي قالوا له: لقد خذلت شعبنا.
تحريم.. وتكريس لا شك في ان المهدية قد حرمت تجارة الرقيق التي كان يمارسها الجلابة ولكن، في حقيقة الامر، لم تفعل هذا بسبب الطبيعة اللاانسانية للرق، وانما خشية من انشاء تجار الرقيق جيوشاً خاصة بهم من العبيد (بازنقر) يتحدون بها الدولة، او ان يجد الرقيق طريقه لمصر فيستعين به الاتراك لاعادة فتح السودان. ذلك هو السبب الذي دفع الخليفة لمنع تصدير الرقيق لمصر، وتوجيهه لقائده في الشمال، ود النجومي باعتراض قوافل الرقيق المتجهة اليها. لهذا وجهت منشورات الخليفة باخضاع التداول في الرق لقواعد يضعها الحاكم، وعلى ان لا يتم التصرف فيه الا عبر بيت المال. بهذا الفهم، اصبح منع التجارة الخاصة في الرق، في حين الابقاء عليها تحت امرة الدولة، تأميما لتلك التجارة، لا إلغاء لها. اما موقف المهدي نفسه حيال التحريم فقد كان واضحاً لا لُبس فيه; ففي رسالة لمحمد خير عبد الله خوجلي في برير كتب المهدي معاتباً وكيله لتردده في اعادة الرقيق الذي حرره الاتراك الى مالكيهم «الشرعيين».
وفي جنوب السودان لم يختلف الوضع كثيرا، اذ استعرت من جديد نيران الاسترقاق التي أطفأها غردون وبيكر. لم يكن ذلك امرا لا ينبغي ان يفاجئ احدا، خاصة والرجل الذي ولاه الخليفة على بحر الغزال كان هو تاجر الرقيق القديم، كرم الله كركساوي. وكان على رأس المهام التي انيطت بكرم الله تجنيد المشاة السابقين (الجهادية) في الجيش التركي للاستعانة بخبراتهم في جيش المهدي. سعت المهدية ايضا لتوسيع حملتها الى الاستوائية، والتي كان يديرها يومذاك حاكم الماني يدعى ادوارد شنيتزر اطلق عليه اسم امين باشا، رغما عن النصيحة الحكيمة التي قدمها للخليفة عمر صالح، قائد جيوش المهدية في تلك المنطقة، ودعاه فيها لايقاف الهجمات على قبائل الاستوائية لانهم بعاداتهم وتقاليدهم الموروثة لا يستسيغون الانموذج الديني الطهراني الذي فرضته المهدية. ولعل الخليفة ـ بجانب حرصه على اقتناص قدامى المحاربين الذين تمرسوا على الرماية والقتال في جيش صموئيل بيكر ـ كان يروم ايضا محو آخر اثر للترك في السودان: المديرية الاستوائية. وصدق حدس عمر صالح حول عدم استساغة الجنوبيين للطهرانية المهدوية، رغم كل ما منحته المهدية للرقيق العسكري من امتياز. فعلى سبيل المثال، تمرد فريق منهم بين عامي 1885 و 1887 في مدينة الابيض ضد الحكم المهدوي، وقاموا برفع العلم التركي تعبيرا عن عدم شعورهم بالرضا، كما انتقوا من بينهم قائدا اطلقوا عليه، بحماقة متناهية، لقب الباشا. تلك الثورة اخمد نارها بعنف حمدان ابو عنجة.
في نهاية المطاف وجدت المهدية نفسها امام عقدة مزدوجة، ففي الشمال زادت سياسات النظام من اغتراب العلماء عنه، وحقد القبائل عليه. وفي الجنوب تحول الذين استقبلوا المهدية بالابتهاج في بداياتها الى اعداء بسبب عودة الاسترقاق وفرض نموذج ديني غريب عليهم. من ذلك نخلص الى ان المهدية تركت آثارا على الجنوب والشمال حافلة بالنقائض. فمن ناحية، خلقت في الشمال بؤرة من الكرامة الوطنية توحد حولها السودانيون رغم كل مآخذهم عليها، وفي ذات الوقت دمرت المهدية روح التسامح الديني والسياسي في الشمال الذي تميزت به الممالك الاسلامية السابقة مما خلق انقسامات قبلية حادة استغرقت ازالة آثارها سنين طوالا، وجهدا جهيدا من قادة المهدية الثانية. أما في الجنوب فقد قوضت سياسات الاسلمة القسرية المجتمعات القبلية، كما خلقت صورة للاسلام بغضت الجنوبيين فيه.
فالدولة المهدية قبل ان يدمرها الاستعمار دمرت نفسها بسياساتها. ومن الغريب ان يورد كاتب اسلامي معاصر (عبد الوهاب الافندي) ان تدمير الدولة المهدية هو نتاج مباشر لتدخل القوى الاجنبية ورغبتها في تصفية المشروع المهدوي. هذا المشروع، في رأي الكاتب، اتجه الى ازالة الحواجز بين اقاليم السودان وقبائله واحلال السودان موقعا متميزا بين الامم، وكأن كل المغامرات الخارجية والعنف الداخلي، والاوهام الايديولوجية، والذهول الكامل عن القضايا الحياتية لاهل السودان، لا يد لها في ذلك الفشل، او كأنها امور يخلق بالسودانيين نسيانها مادامت الدولة قد نسبت نفسها للاسلام. هذا النوع من التبرير هو الذي يفقد كل دعاوى الاسلامويين اية صدقية، ويفضح تكاذيبهم عن السماحة في اسلامهم. فالعنف الذي مورس ضد القبائل التي رفضت المهدية لا يمكن ان يكون هو الاسلوب الذي توحد به الامم، والاعتداءات على الدول المجاورة والتحرش بالدول النائية ليسا هما السبيل الامثل لان يكون للسودان اسم ومكان على النطاق الخارجي. فطوال ستة عشر عاما من الحكم كانت الوظيفة الوحيدة للحاكم هي شن الحروب الداخلية لقمع الآخرين، وتعبئة الموارد المحدودة لنشر الاسلام المهدوي في العالمين، وتحريض القبائل على بعضها البعض حتى فقد شعب السودان نصف اهله بنهاية الحقبة المهدية (من 8 الى 3.5 مليون نسمة).