عبد الهادي الحاج
المدينة المترهلة تنغمس رويداً رويداً في عتمة الليل.. وفي الحي العريق ثمة منزل كبير له باب خشبي يتسلل منه ضوء أحد المصابيح الكهربائية.
الهدوء يخيم على جميع طرقات الحي.. فى ركن قصي داخل إحدى غرف ذلك المنزل تجلس زهرة.. أطرافها ترتعش خوفاً من المكروه الذي ينتظرها.
حاولت أن تقاوم ذلك الخوف لكن قلبها الصغير لم يحتمل قسوة التصاوير التي تدور بمخيلتها.. واخيراً قررت الهروب إلى المجهول.
زهرة لم تكن تخاف شيئاً في تلك اللحظة أكثر من رؤية وجه أمها، أوما يفترض أن تكون أمها.. تسللت بين خيوط الضوء الصادرة من المصباح الكهربائي إلى رحابة الظلام الذي بدأ يلف الطرقات.
كانت زهرة تعتقد أن عتمة الليل ستكون أرحم من عتمة قلب الأم لذا لم تبالي بما يمكن أن ينتظرها في الظلام الدامس الذي دلفت إليه بعد أن تأبطت كيساً صغيراً جمعت فيه بعض ما يمكن أن يسد الرمق.
زهرة واحدة من ضحايا مشروع إعادة صياغة إنسان المدينة المترهلة.. خرجت للوجود وهي تحمل إثماً ليس لها فيه نصيب.. صرختها الأولى كانت صافرة إنذار ببلوغ الكارثة طورها الأخير.
بدأت حياتها وهي جزء من نفايات المدينة، ثم إلتقط بعض السيارة عارها وحملوه لحراس الأخلاق.
وفي حقبة ميلادها تفتقت آلآف الأزهار على الطرقات المظلمة، وحراس الأخلاق ماعاد بوسعهم ستر عورة مشروعهم.
اجتمع أصحاب الأيادي المتوضئة وقرروا التخلص من آثام مشروعهم البغيض بإفراغ المدينة من الزهور.. حيث تمكنوا من أسر عقول سكانها ببريق الدنانير.
حمل السكان آثام المشروع البغيض إلى بيوتهم .. فرحوا بمقدم الزهرات بصحبة الدنانير وهم يتدثرون زوراً برداء الإنسانية.
تنفس أصحاب الأيادي المتوضئة الصعداء بعد أن ظنوا أنهم تخلصوا من عار المدينة، لكن حينما خبأ بريق الدنانير ماعد بوسع السكان تحمل فاتورة المشروع البغيض.
منهم من رمى زهرته على قارعة المجهول.. ومنهم من لعن اليوم الذي ادعى فيه الإنسانية، وزهرة كانت من أولئك اللواتي كُتب عليهن الشقاء مرتين.
الأولى على يد أمها التي جعلتها جزء من نفايات المدينة، والثانية على يد تلك التي حملت اللقب مجازاً.
حدثها قلبها المكلوم بالعودة إلى الدروب المجهولة حيث صرختها الأولى.
أغلقت خلفها الباب الخشبي بإحكام وتركت خطاها الحائرة تبحث عن مرقد لأحلامها وسط الأزقة المظلمة.
قادتها رحلة التيه صوب كومة من القش لتستر داخلها ما تبقت لها من آدمية حيث فارهات أصحاب الأيادي المتوضئة تنثر عليها غبار الطرقات، ومصابيحها تكشف بؤس صنيعهم.
زهرة تجد نفسها مرة أخرى بين أيدي السيارة وترفض أن تقبر أحلامها خلف الباب الخشبي.. رفضت بذكائها الفطري أن تكشف سرها للسيارة، لكن حينما قرروا أخذها لحراس الأخلاق رفضت أن تكرر السيناريو بذات التفاصيل المملة.
إنتهت مقاومتها على وسادة دافئة عوضتها بعض مما سلبه منها رهق سنواتها الغضة.. تذوقت على تلك الوسادة الإحساس الحقيقي بإنسانيتها، لكن يا للأسف ذلك الإحساس لم يدم أكثر من ستون دقيقة.
إنتهت الأحلام السعيدة بما ظنته كابوساً مفزعاً تجسد لها في شخص الأم المجازية.
طوت زهرة ماتبقى من أحلامها الصغيرة وهي تودع الوسادة الدافئة مثلما طوت الأم المجازية أحلامها الكبيرة حينما ودعت بريق الدنانير.
الأم تحكم قبضتها حول اليد الصغيرة وتقودها نحو المنزل الكبير/ ثم تغلق الباب الخشبي خلفها بإحكام وتطفئ المصباح الكهربائي تاركة المنزل غارقاً في ظلامه الدامس وسكون الليل الذي يحمل قهقهة أصحاب الأيادي المتوضئة من مكان بعيد.
